أدب
أخر الأخبار

الطبقية في اليمن

من خلال رواية"نبوءة الشيوخ" للروائي اليمني بسام شمس الدين

صدرت رواية ” نبوءة الشيوخ” للكاتب اليمني بسام شمس الدين عن دار ممدوح عدوان، دمشق، ودار سرد للنشر 2019م.

تتناول الرواية، التي تقع في 244صفحة، السنوات الخمس الأولى من عمر ثورة 26 سبتمبر في شمال اليمن؛ أي من 1962 إلى 1967، وقد شهدت هذه السنوات الحرب الجمهورية الملكية التي تكللت بانتصار النظام الجمهوري. تتعرض الرواية لموضوع دخول القوات المصرية إلى اليمن ومساندتها للنظام الجمهوري، وينطوي السرد على نقد لبعض تصرفات تلك القوات وللأخطاء التي رافقت الثورة.

ونحن هنا لن نتعرض لهذا الموضوع إلا من طرف اتصاله بموضوعنا الرئيسي في هذه المقالة، وهو التراتب الطبقي في المجتمع اليمني الحديث، الذي لا يزال حاضرا حتى اليوم بعد مرور أكثر من نصف قرن على قيام تلك الثورة. كما أننا لن نتعرض للجوانب الفنية في الرواية؛ لا سيما أن هذا الأمر قد تناوله كتّاب آخرون في مقالات استعرضت الرواية بصفة عامة.

الطبقية الداء الاجتماعي المزمن

 تدور أحداث الرواية، بصفة خاصة، حول شخصية الأجير مهدي نصاري وعلاقته بنبوءة قديمة حول كنز أثري في إحدى تلال قريته. قرية “سحمر”، التي ينتمي إليها بطل الرواية مهدي نصاري، غرب مدينة “يريم” التابعة لمحافظة إب، وتعد يريم بقراها من أشهر المناطق الزراعية في المناطق الجبلية اليمنية. ومن هنا، تأتي تلك العلاقة التي تجمع مهدي نصاري ” الأجير” بمالك الأرض الذي يطلق عليه اسم ” المراغة”؛ وكلمة مراغة تعني الرجل العارف بالأحكام القبلية، الذي يلجأ إليه الناس للاستفتاء حول الأحكام المتعلقة بالخلافات المجتمعية وبالأعراف القبلية بصورة عامة. والملاحظ أنّ الرواية، منذ صفحاتها الأولى، ترسم الخريطة الطبقية في المجتمع اليمني خلال تلك المرحلة التحولية، أي بدايات ستينيات القرن العشرين:

“كانت (…) هناك طبقات مختلفة، ِملّاك أرض وأجراء، وسادة وخدّامون، ورجال قبائل ومزاينة،[1]وحرفيون حقراء، وأكثرية فقراء، وأقلية أغنياء، ومسلمون ويهود. وكل فرد ـ مهما كان وضيعاـ يكون راض عن أصله وفصله ومهنته، لا أحد يتجاوز حدوده، أو يحتقر مهنته أو نسبه، فالمزيِنيقول بتسليم: أنا شخص “قليل أصل”[2]أعيش بفضل رؤوس أبناء الأسر الكريمة، وسأتزوج من طبقتي.مالكو الأرض يسيرون راكبين بغالهم أو حميرهم، يحف حولهم الأجراء القرويون منكمشين خائفين أن يسوء مزاج هؤلاء الملاك أو يعكر صفوهم شيء ما. وعند تقييم الغلة يذبحون أسمن دجاجاتهم العزيزة ويقيمون وليمة على شرف قدومهم، وهكذا كانوا يعيشون برضا تام، ويظنون أنهم سعداء بهذا الحال ولا ينقصهم شيء”.[3]

وهنا تأتي نقطة التحول في الحكي، فالسارد يتابع بقوله: ” بيد أن الزمن فاجأهم بقدوم أول شاحنة إلى سوق المدينة” وعندها يخاف القرويون في مدينة يريم من هذه المركبة الغريبة التي لم يروا مثلها من قبل، ويزداد الأمر توترا مع الخبر الذي حمله إليهم سائق الشاحنة، ومفاده أن جيشا مصريا قدم إلى اليمن لمؤازرة الجمهوريين. فهل يعني ذلك أنّ الحياة بدأت تتغير نحو الحداثة وأنَّ الجمهورية قد جلبت معها تغييرا اجتماعيا يطال البنية الطبقية للمجتمع الذي سردها النص في الاقتباس السابق؟ والحقيقة أنّ الرواية لا تخبرنا كثيرا عن تغيرات من هذا القبيل، بل ما نجده هو أنّ الثقافة اليمنية حافظت على تلك البنية الاجتماعية الطبقية، وإنْ تغير النظام السياسي من الملكية الإمامية إلى النظام الجمهوري الذي حمل معه وعودا بالمساواة.

العمل الفني لرشاد السامعي

محاور موضوعية في الرواية

عند قراءة الرواية بصورة دقيقة يتضح أنها تعالج عددا من الموضوعات، ومنها وضع المجتمع من الناحية التراتبية قبل ثورة 26 سبتمبر وفي السنوات الأولى منها، ووضع المرأة في الريف، وكذلك المجال السياسي خلال تلك الفترة وماصاحبها من تدخل القوى الإقليمية وأثر ذلك على تحديد مسار الأحداث في الفترة التي لحقت الثورة. غير أننا سنحصر تناولنا هنا في موضوعين يخصان الجانب الطبقي في المجتمع الذي تدور هذه المقالة حوله.

أولا: الريف والثورة

يحتوي الترتيب الاجتماعي في المجتمع القبلي والريف بشكل عام على خمسة مراتب: مشايخ القبائل، السادة والقضاة والفقهاء، وفئة الأعيان والأمناء، وفئة القبائل وفي هذا الأخيرة تدخل فئة المزارعين، والفئات الحرفية والمهنية، وتأتي في الأخير فئتا اليهود والأخدام. ينظر رجال القبائل إلى الفئات الحرفية والمهنية باعتبارها فئات” ناقصة”. وكان من عادة الأجراء تقبيل أقدام أسيادهم، وقد جاء في الرواية:

 ” لقد كتم عنها أن المراغة منعه من تقبيل قدميه”.

أما الان بعد سنوات من الثورة فقد أخذ هذا التقليد في التلاشي بعد ما أطاح الجمهوريون بالملكيين. تقول إحدى شخصيات الرواية “فلن تجد أيا منهم ينحني للملاك” ص” 58″. هذا رغم أن اليمن الحديث لم ينج من هذه التمايزات لاسيما في بعض الجيوب الاجتماعية التي ظلت تقاوم التغيير.

ومن خلال بطل الرواية يستعرض الروائي الأوضاع في تلك الحقبة المهمة من تاريخ اليمن، عندما يسرد وجه المقارنة  بين الماضي البعيد والحاضر من خلال مهدي نصاري ” كذلك يطالبون بمساواة الأجير بالمالك وتوزيع الأرض على الجميع بالتساوي ” و ” سرعان ما تنبه إلى شعور قوي يخامره، شيء يشبه الخوف من المجهول، الخوف من الولوج إلى قلب حرية لا آخر لها سوى الفوضى، فأمزجة الناس وأفكارهم غدت متمردة وخطيرة” ويظل الخوف من الجديد خوفا منطقيا لمن لم يجرب الحرية.

ولأنهم يخافون المجهول والتغييرات التي تحصل  فقد صرحت إحدى الشخصيات في الرواية: ” ولكنهم عادوا بملابس إفرنجية معطرة، وأجساد رخوة مدهونة، وصاروا يحركون أفواها رخوة، قائلين بنبرات ذات رنة أنثوية ، إما حرية كاملة غير منقوصة أو عبودية كاملة أيضا”صـ60

فالناس قد تعودوا أن هناك من يفكر عنهم ويضع لهم الخيارات ولذلك يخافون الجديد، تقول إحدى الشخصيات: “وهذا بعث الخوف في نفسه من النظام الجمهوري، ومن مبادئة الجريئة التي تسخر من التقاليد والنظام الطبقي في البلاد.” صـ60 .

أبرز الكاتب وضع المناطق البعيدة والقريبة من المدن الرئيسية بعد الثورة حيث بَيَّن أن الثورة لم تصل إلى الريف. وبرغم مرور سنوات من الثورة، فإن نظرة القبائل للجمهورية الوليدة ورؤيتهم للثوار لا تختلف عن نظرة الملكيين للثورة.

ثانيا: الإيمان الزائف بمبادئ الجمهورية

تناول النص كيف تعاملت الجمهورية الوليدة مع أبنائها، وكيف أن الثوار لم يستطيعوا أن يجعلوها قضية مصيرية. وأبرزت الرواية تعامل بعض شيوخ القبائل مع الجمهورية وانتهازيتهم، فهم لا يعرفون إلا مصالحهم، وطالما هناك من يضمنها لهم فهم في صفه، وما الشيخ شايع بن ناصر إلا مثالا على ذلك. فالشيخ شايع حارب الجمهورية الوليدة والثوار ونصب الكمائن لهم وحاصر الأماكن التي يتواجد بها الثوار. وعندما عجزوا عن استمالته أو القضاء عليه، عملوا بنصيحة الشيخ “الوشاح” الذي قال لهم ” ابتاعوه برتبة أو منصب، وسيأتيكم حبوا! افعلوا ذلك” صـ200. أي افعلوا ذلك أسوة بحال غيره من المشايخ الذين انضموا إلى الجمهورية عن طريق المال والمصالح.

يجيد بسام شمس الدين اللعب على وتر التناقض الصارخ  في سلوك اليمنيين. فهم في الظاهر يؤمنون بمبادئ الجمهورية المكرِّسة للعدالة والمساواة، غير أنهم يخالفون ذلك في سلوكياتهم متبعين بعض العادات والتقاليد التي ترسخ الطبقية والاحتقار. ومن هنا، نجد أن “الإيمان الزائف” وعلاقته ” بالتراتب الطبقي” هو الموضوع المهيمن في روايات بسام شمس الدين. ففي روايته “هفوة” 2011م تناول النص فئة اليهود وعلاقتها بالمجتمع اليمني العام، أما في روايته الأخرى” نزهة عائلية”2017م فقد ركز السرد على موضوع الطبقية من خلال مهنة “الجزار”؛ وذلك من خلال شخصية ” مأمون ” الذي ينتمي إلى فئة “البَيَع” الدنيا، المحكوم عليها بالانتقاص من المجتمع اليمني الخاضع للتقسيمات الفئوية التي تُبنى عليها المكانات والأدوار. يلمس القارئ في شخصية “مأمون”، كيف تعبث الظروف الاجتماعية القاسية بحياة الإنسان، مقتحمةً بذلك أعماقه النفسية، فلا سبيل للخلاص منها خاصةً إذا فرضت الظروف قساوتها منذ الطفولة

العمل الفني لرشاد السامعي

لماذا يركز روائيو اليمن على موضوع الطبقية؟

الجدير بالذكر أن هناك روائيين يمنيين تناولوا الطبقية في المجتمع اليمني باعتبارها مرضا اجتماعيا بغيضا. من هؤلاء الكتاب علي المقري في روايتيه “طعم أسود.. رائحة سوداء” و” اليهودي الحالي” و”حصن الزيدي” للروائي الغربي عمران والروائي رياض معطاس الذي تناول فئة الأخدام في روايته الصادرة حديثا” المنبوذون” والروائي عمار باطويل في روايتيه” سالمين” و” عقرون94″ وصالح باعامر في روايته” المكلا ” وسميه طه في ” المشرحة” وياسر عبدالباقي في” زهافار” وكذلك عالجت هذا الموضوع رواية “أرض المؤامرات السعيدة” لوجدي الأهدل، وغيرها من الروايات الصادرة حديثا.

وهذا النشر الروائي المركز على هذا الموضوع يدل على أن الطبقية كقيم وسلوك تؤثر تأثيرات سلبية على حياة اليمنيين في مستوياتها الاجتماعية والسياسية. ومن ثمارها المرّة فوق الاحتقار اليومي، الاقتتال والتنازع على المكانة والمصالح المادية، وهو ما يهدد استقرار البلد ومستقبلها.

 


[1]المزاينة هم فئات يزاولون بعض الأعمال المحتقرة كالحلاقة والجزارة وزراعة الفجل والكراث وغيرها (هذا التعليق موجود في الرواية عند هذا الموضع من الاقتباس).

[2]ناقص ذو أصول حقيرة (هذا التعليق موجود في الرواية عند هذا الموضع من الاقتباس).

[3]شمس الدين، بسام، نبوءة الشيوخ، دار ممدوح عدوان للنشر، ودار سرد للنشر، 2019م، ص3

اظهر المزيد

Bilal Qaed

كاتب وشاعر يمني. عضو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وحائز على جائزة الدكتور عبدالعزيز المقالح. أصدر ديوان "مأخوذة بالنهايات" وديوان" وحدهم" الصادر هذا العام مؤسسة هنداوي. شارك في العديد من الملفات الخاصة عن اليمن، ونشر العديد من المقالات والاستطلاعات الثقافية في المجلات العربية والمواقع اليمنية والعربية. من أعضاء هيئة تحرير مجلة "إل مقه".

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى