ثقافة

إنسان العصر الحجري يتيه في اليمن | الجزء الأول – ما قبل التاريخ

This post is also available in: English (الإنجليزية)

 صورة تخيلية لإنسان العصر الحجري القديم في اليمن - العمل بإذن من شهاب الاهدل ومهند الشيخ
صورة تخيلية لإنسان العصر الحجري القديم في اليمن – العمل بإذن من شهاب الاهدل ومهند الشيخ

مع حلول أكثر العصور الجليدية ضراوة، وتحول أفريقية الخضراء إلى كثبان واسعة من الرمال، لم يكن أمام الإنسان القديم إلا السير بعيداً عن وطأة ذلك المناخ. ومع وصوله إلى الشواطئ الإريترية، تفاجأت الإنسانية لأول مرة بوجود البحر، و توطنت في الساحل الشرقي لأفريقية واثقة من أنها وصلت إلى حافة العالم. ومر وقت طويل والبشرية على حالها قبل أن يظهر الشجعان الذين جازفوا بعبور البحر قبل ابتكار القوارب. أولئك هم أوائل المغامرين الذين وصلوا إلى اليمن ليضعوا أول قدم بشرية خارج أفريقية. ومع ذلك، فإن اليمن بالنسبة للعالم اليوم ليس إلا ممرا سريعا اتخذه الإنسان القديم للوصول إلى بقية العالم, وأرضاً لم يسكنها إلا في فترة متأخرة من تاريخه الطويل..في هذا المقال نقدم أدلة معاكسة للنموذج النظري السائد حول هذه المسألة, وسيناريوهات تجيب على تسأولاتنا: متى استوطن الإنسان اليمن؟ و كيف كانت هيئة أوائل المستوطنين؟ و ما هي أدواتهم؟ وأي بيئة احتضنت وجودهم؟

عند الحديث عن هجرة الإنسان القديم, يفترض العلماء انحسار مياه البحر عن مضيق باب المندب, وتحول المضيق إلى جسر سار عليه اوائل المهاجرين. ولأن هذا النموذج يفترض عبور البحر في الفترة من 50- 40 ألف قبل الميلاد, فهو بذلك يتخذ المناخ الجاف الذي ساد اليمن في تلك الفترة دليلاً على عدم إستيطان هذه البلد من قبل الإنسان. وفي الحقيقة لا يمكن أن يكون هناك أي إنحسار لمياه البحر دون حللول عصر جليدي يتسبب في تجميد البحار في الأجزاء الشمالية والجنوبية من الكرة الأرضية, وهو ما لم  يحدث في تلك الفترة.  ومؤخرا  ظهرت دراسات تتحدث عن هجرة الإنسان إلى اليمن في فترة سبقت العام 85 ألف سنة قبل الميلاد؛[i] أي خلال العصر الجليدي الذي يؤكد علماء المناخ أنه تزامن مع مناخ رطب ومثالي في اليمن. غير أن هذا الأمر لا يزال يثير سلسلة من الأسئلة الصعبة.

هل استوطن الإنسان القديم اليمن أم استخدمها نقطة للعبور؟

يفترض نموذج الهجرة المذكور قيام مجموعة مكونة من 150 إلى 1000 شخص بعبور البحر الأحمر. وبعد ذلك، قيام تلك المجموعة بنزوح سريع على طول الساحل الجنوبي لليمن وصولاً إلى مضيق هرمز ومنه إلى بلاد فارس و بلاد الهند اللتين يصر هذا النموذج النظري بأنهما أول مكان خارج أفريقية استقر فيه الإنسان. و هو بذلك ينفي أن يكون هناك إي استيطان بشري في اليمن التي اعتبرها منطقة عبور ليس إلا. لكن هل يعقل أن يتجاهل الإنسان القديم الأرض التي دخلها بالكاد ليتجاوزها سيرا على أطرافها الساحلية، دون أن يتيه قليلاً أو يتوغل مكتشفاً أراضيها الأكثر برودة وخضرة؟ و بما إن تقنية الجي بي اس لم تكن – جزما- موجودة في ذلك الزمان، فمن أين للإنسان القديم هذه المعرفة الجغرافية السريعة والدقيقة في أرض جديدة لم يعهدها من قبل؟ أليس هذا النموذج أقرب لحركة المهاجرين الأفارقة في وقتنا الحالي الذين يعبرون اليمن سريعاً عبر أكثر الطرق سهولة للوصول إلى وجهتهم المحددة سلفاً، وأبعد كل البعد عن حركة الإنسان البدائي الذي بالتأكيد لم يكن يحلم بالهجرة إلى أوروبا؟.

لقد أدى اكتشاف مستعمرات بشرية  يعود أقدمها إلى سبعين ألف سنة في وادي سردد غرب اليمن  إلى تأكيد هجرة الإنسان القديم عبر اليمن قبل الزمن الذي درج العلماء على ذكره.[ii] يقع وادي سردد ضمن مرتفعات المحويت وليس في الساحل التهامي. وهذا مؤشر على صعود الإنسان القادم من أفريقية إلى المرتفعات اليمنية حيث الأنهار والغابات المدارية. وهو نفس الفعل الذي قامت به الحيوانات، إذ لا يجب أن نتعامل مع اتجاهات هجرة البشر في العصور القديمة بمعزل عن اتجاهات هجرة الحيوانات لا سيما أن البشر كانوا يخضعون لنفس العوامل المحفزة للهجرة التي خضعت لها كائنات أخرى- كالبحث عن الماء العذب، والطرائد، والمناخ الرطب، وهو ما يتوفر في اليمن في منطقة المرتفعات أكثر من توفره في الساحل. إن انتشار الأحجار المصقولة والعظام بكثرة في المواقع المكتشفة في وادي سردد يؤكد على استيطان بشري كثيف للغاية. وعلاوة على ذلك، فإن زحف المستوطنين الأوائل قد امتد شرقاً نحو السهوب المنخفضة التي تعرف اليوم بصحاري اليمن وصولاً إلى هضبة حضرموت، التي عثر فيها على أدوات حجرية تعود إلى العصر الحجري القديم بعد عمليات تنقيب قامت بها البعثة السوفيتية في مطلع العام 1983م.

 طوال 40 ألف عام من العزلة والمناخ الحار حافظ السكان الأصليون لأستراليا على كثير من السمات الأفريقية. وهذا الوضع لم يكن قائماً في اليمن؛ إذ لم تستمر العزلة طويلاً. و على مر ألآف السنين تسبب المناخ البارد نسبياً في المرتفعات في تغيير هذه السمات تدريجياً نحو صبغة جديدة تأثرت بالاختلاط المتكرر مع شعوب الأوراسيا. غير أن أجيالا عديدة من المستوطنين الأوائل قد حافظت على السمات الفسيولوجية للأسلاف في شرق إفريقية.  ومن خلال تشريح العظام لوحظت ميزات عديدة في هيئة الإنسان الذي عاش في شرق أفريقية خلال وقت الهجرة المفترض، ومنها اتساع في حجم الجمجمة، وسماكة في عظام الأطراف، إضافة إلى أن الجسد أطول قليلاً من طول الإنسان المعاصر.[iii] . والملاحظ أيضا أن هذا الجسد غير متناسق مع حجم الرأس الذي وصل إلى حدود 1450 سنتيمترا مكعبا؛ في حين لا يتجاوز حجم رأس الإنسان المعاصر 1350 سنتيمترا مكعبا.[iv] من هذه المعلومات التي تضمنتها مصادرنا, وعبر تقنية النحت الإلكتروني قمنا بوضع تصور لهيئة أوائل المستوطنين في اليمن خلال الفترة 60-85 ألف قبل الميلاد.

كيف كانت أدواتهم؟

مثلت قرون الغزال والوعل وعظام فخذ الفيل أفضل أسلحة القتال بالنسبة للصيادين المتنقلين، الذين استخرجوا العظام الطويلة من هياكل الثدييات الكبيرة واستخدموها كرماح وخناجر بعد كشط رأسها بكاشطات حجرية، وصنعوا من شظايا العظام سكاكين و دبابيس وإبرا استخدمت في عمليات جراحة بدائية. كما كانت القطع العظمية المجوفة مثالية لصناعة الآلات الموسيقية كالمزامير والصافرات. و قد قام القدماء بنحت العظام ليصنعوا أمشاط الشعر وأدوات الزينة. غير أن الكثير من البقايا العظمية لم تنجح في البقاء على حالتها طوال عشرات الألآف من السنين، ووقفت هشاشة العظام المكتشفة في وادي سردد كعائق أمام العلماء لتحديد أي علامات للقطع الناتج عن الافتراس أو حتى التشذيب الناتج عن الصناعة العظمية.

  الإنسان اليمني القديم في مواجهة مع النمر السيفي والفيل العملاق ذو الناب المستقيم, صورة تخيلية باذن من شهاب الاهدل  الإنسان اليمني القديم في مواجهة مع النمر السيفي والفيل العملاق ذو الناب المستقيم, صورة تخيلية باذن من شهاب الاهدل

استخدم اليمني القديم الحجارة كأدوات صغيرة متعددة الأغراض. وقام بتكسيرها بالقرع المباشر عليها بالمطارق الحجرية. وأنتج أدوات متنوعة من شفرات ورقائق حادة استخدمها للقتال وتقطيع الطعام. وقد جعلتها زيادة الكثافة وصلابة مادتي الريولايت و البازلت  صعبة الكسر مما أهلها أن تستخدم كمطارق تنفذ بها أعمالا شاقة في ذلك العصر السحيق. كما استخدم الفونوليت كرقائق حجرية حادة” سكاكين”.

 في أي بيئة عاش ذلك الإنسان؟

  حل العصر الجليدي وأصبح المناخ في كل جزء من العالم ينقلب راسا على عقب, فتحولت أوروبا إلى مسطحات هائلة من الأنهار الجليدية, إلى درجة أن أفراس النهر كانت تموت متجمدة في أنهار إنجلترا, أما أفريقية فقد اضطر الإنسان إلى مغادرتها هربا من مناخها الذي أصبح شديد الحر والجفاف, وحين وصل الإنسان إلى اليمن, شاهد أشجارا مدارية على ضفاف الأنهار وغابات كثيفة من العرعر والخلنجية تغطي سهول المرتفعات, و شاهد سهوبا خضراء تمتد بالقرب من البحيرات الكبرى التي ملئت صحراء الجوف وكذلك ما تعرف اليوم برملة السبعيتن. هذا ما أكدته حبوب اللقاح التي وجدت في رواسب البحيرات القديمة في منطقة الحوه الصحراوية.

 خريطة المستعمرات البشرية والظروف البيئية  في اليمن خلال العصر الحجري - الصورة باذن من شهاب الاهدل وعبير حامد خريطة المستعمرات البشرية والظروف البيئية  في اليمن خلال العصر الحجري – الصورة باذن من شهاب الاهدل وعبير حامد

لا يمكن الجزم بشأن الحيوانات التي سكنت اليمن في العصر الحجري القديم نظراً لأن جميع البقايا العظمية المكتشفة ليست في حالة جيدة تسمح بتحديد نوعها. ومع ظهور دراسات حديثة تتحدث عن مناخ رطب حوّل اليمن إلى ملجئ بيئي خلال جليديات البلايستوسن،[v] فقد بات اليمن منذ ذلك الحين بالنسبة لكثير من العلماء بلداً يخبئ الكثير من الأسرار. وحتى يتسنى للمختصين البحث والتنقيب، فإننا نستطيع أن نبني افتراضات مستندة على أسس سليمة حول الحيوانات التي قد يعثر يوما ما على بقاياها العظمية. إن استيطان النمور لليمن حالياً، وصيد الفهود الذي خلدته نقوش صخرة العقلة في شبوة، والأسود المرسومة على جدران الكهوف في صعدة يؤكد انسجام السِّنوريَّات إلى حد ما مع البيئة اليمنية خلال الفترة الجافة، فما بالنا بالفترات الرطبة التي سادت اليمن قديماً. وهذا يرجح أن السِّنوريَّات القديمة قد تكون استوطنت اليمن في فترات بالغة القدم، وعند خروج الإنسان من أفريقيا كان لايزال هناك أنواع متبقية من السنوريات السيفية الكبيرة منتشرة في أفريقية [vi]وآسيا وأمريكا الشمالية، وعلى وجه الخصوص السنور السيفي وهو قط زاد حجمه على حجم الأسد, وامتدت مساحة عيشه على طول قارتي آسيا وأوروبا.

مع اجتياح الأنهار الجليدية موائل حيوانات الأوراسيا الكبيرة، وتحول الكثبان الواسعة من الصحاري العربية إلى سهوب خضراء تغذيها الأنهار، هاجرت قطعان الأوراسيات العاشبة جنوباً بحثاً عن المروج. ربما امتدت هجرة حيوان ماموث السهوب إلى الأراضي التي تعرف اليوم بصحراء النفود شمال العربية السعودية، لكن الفيل العملاق ذو الناب المستقيم كان صاحب أكبر توسع معروف في الهجرة، حيث امتدت موائله خلال العصور الجليدية على طول الشرق الأوسط وصولاُ إلى أفريقية. وهكذا تكون صحاري اليمن مرشحة لتخبئ تحت كثبانها رفات هذا الحيوان الضخم. و الأمر ذاته ينطبق على فرس النهر الذي وجدت بقاياه قي صحراء النفود و تمساح المياه المالحة، الذي يكاد يكون استيطانه لمصبات الأنهار اليمنية أمراً مؤكدا. نحن بهذه الإفتراضات نرسم صورة دامية لمواجهات دارت بيت الحيوانات المذكورة والإنسان في اليمن ، الذي كان من حسن حظه أن وصوله إلى اليمن قد تزامن مع انقراض جماعي ضخم اختفت فيه ثديات أخرى أكثر ضخامة، يشار إليها مجتمعةً بالميكروباتونا الكبيرة.

من الصعب تخيل حياة الإنسان القديم في بلد لم تكتشف بعد كهوفه المطمورة. تلك الكهوف التي كانت مسكن الإنسان القديم,  والتي غالباً ما يعثر فيها على بقايا بشرية وحيوانية بالغة القدم وفي حالة جيدة يسهل تشخيصها. وأذا تخيلنا اليوم كيف عاش هذا الإنسان بين وعورة الجبال ومتاهاتها ورطوبة المناخ المتقلب وجفافه, سنستطيع حينها أن نتفهم تأخر الإكتشافات العظمية في اليمن.

———————————

[i] Simon Armitage, And others, The Southern Route “Out of Africa”: Evidence for an Early Expansion of Modern Humans into Arabia 2011. See also  Nick Drake, And others, Homo sapiens in Arabia by 85,000 years ago- 2018- page 6
[ii] Inland Human Settlement in Southern Arabia 55,000 Years ago. New Evidence from the Wadi Surdud Middle Paleolithic Site Complex, Western Yemen- Journal of Human Evolution – 2012-page 456.
[iii] Sang Hee Lee and Milford H. Wolpoff- The pattern of evolution in Pleistocene human brain size- Paleobiology,2003, page. 186,187,190
[iv]  See www.becominghuman.org/node/homo-sapiens. The Institute of Human Origins site IHO (2009).
[v] University of Huddersfiel, Humans were in Southern Arabia 10,000 years earlier than first thought-May 11, 2016.
[vi]Roman Uchytel, World of Prehistoric Fauna Site- 2012.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى