ثقافة

تأطير الصراع: الأفلام في زمن الحرب

This post is also available in: English (الإنجليزية)

الفن والحياة وجهان لعملة واحدة. يُنظر للفن، منذ زمن طويل، على أنه تعبير عن الحياة. يكتب المؤلفون ما يعايشونه، و يتأثر الفنانون بعمق بما يحيط بهم، ويخاطب صانعو الأفلام الجماهير من خلال خلق شخصيات ذات صلة بمن يعرفونهم. يعتبر الفن أداة لتأويل العواطف، والدوافع، والطهر، والخطيئة. إنه، بعبارة واحدة،  يعكس جميع جوانب الحياة. ومع ذلك، فإن الفن ليس مجرد مرآة للواقع بل له دور كحافز على التغيير. إلى جانب تصوير الحياة بكل اضطراباتها، فهو يغير نظرتنا إلى العالم ويتحدى الحدود التي نضعها لأنفسنا. الفن لديه القدرة على خلق مساحة تنفس لكي نتعرف أكثر عى أنفسنا، ويشكل دافعا نحو تحسين أنفسنا. وقد أدرك العديد من الحكام المستبدين قوة تأثير الفن على المجتمعات على مر القرون، ولذلك فرضوا الرقابة على الفن ووضعوا أنواعا مختلفة من الحواجز أمام الفن باستثناء ذلك النوع من الفن الذي يروج لسياساتهم. فلا غرابة أن نعلم أن تأثير الفن وصل ذروته خلال الحرب العالمية الثانية، فقد أنشئت وزارة الدعاية في المانيا خلال هذه الفترة، وكان دورها الأساسي هو نشر أفكار النازية ووجهات نظرها من خلال الفنون وفرض رقابة شديدة على الفن والسماح فقط للأعمال الفنية التي من شأنها أن تدعم تقدم الأجندة النازية.

 الصورة بإذن من أفلام قُمرة وقاعدة الفن اليمني الصورة بإذن من أفلام قُمرة وقاعدة الفن اليمني

تشكل تجربتنا الإنسانية وجهه نظرنا حول الفن. و الفن معروف بقدرته على إشراك الحواس، وجذب العقول، وتحدي الأفكار والمنظورات. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل ومحاولة الحصول على إجابات. وتشكل الأفلام جسرا بين الواقع والذات الإنسانية وبين مجتمعات مختلفة؛ فهي تعمل على محو المسافات التي تفصلنا. والأفلام  تمحو الإحساس بأننا غير متأثرين بالمآسي التي يمر بها الآخرون؛ إنها تزودنا بالشعور بالتعاطف. الأفلام الجيدة الصنع ليست هروبًا من الواقع بل تعكس واقعا ينتظر أن يحدث.

أفلام قُمرة وقاعدة الفن اليمني هما مؤسستان تعملان على إنشاء مجتمعات للفنون والسينما في اليمن ورعاية الموهوبين.  عملت سارة إسحاق ويسرى إسحاق  على إنشاء  مجتمع مصغر من الفنانين الذين عملوا معا على مدى السنوات الأخيرة. سارة إسحاق مؤسِّسة قُمرة ومخرجة أفلام رشحت لجائزة الأوسكار عام ٢٠١٤ (رشح فيلمها ليس للكرامة جدران، الذي يصور أحداث المظاهرات السلمية عام ٢٠١١ في اليمن). أما يسرى إسحاق فمنتجة أفلام يمنية ومؤسسة قاعدة الفن اليمني، وهي من مؤسسي قُمرة. إن أفضل شيء يمكن أن تقدمه للإنسان هو القدرة على استخدام صوته والتعبير عن آرائه. يساعد بناء مجتمع فني على خلق الشعور بالانتماء، والفن هو الوسيط المثالي للتعبير عن الذات. وتوضح سارة، ”مثلما يمكن أن يكون كلٌّ من السينما والفن هروبًا من الواقع، فإننا نحاول تقديم ملاذ وشكل مماثل من أشكال الهروب من خلال أفلام قُمرة وقاعدة  الفن اليمني. لقد جعلنا من أولوياتنا إنشاء مكان آمن لكل من يحب صناعة الأفلام والسينما والفن للتعبير عن أنفسهم ومشاركة أفكارهم بحرية مع أشخاص آخرين ممن يشابهونهم في التفكير.“

إن فتح طرق جديدة نحو الإبداع والتعبير عن الذات هو السبيل نحو دعم الفنانين ودفعهم لكسر الحدود من خلال أعمالهم. تقول يسرى: ”نهدف إلى زيادة قدرة صانعي الأفلام والفنانين بشكل عام. ونعرض على المشاركين أشكال مختلفة من وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم أثناء التدريب، كما نستضيف الخبراء الذين لديهم خبرة متنوعة في وسائل الإعلام، ويتعاون هؤلاء الخبراء مع المشاركين.“ 

 سارة اسحاق (يسار)، يسرى اسحاق (يمين) - الصورة بإذن من أفلام قُمرة وقاعدة الفن اليمني سارة اسحاق (يسار)، يسرى اسحاق (يمين) – الصورة بإذن من أفلام قُمرة وقاعدة الفن اليمني

المرأة اليمنية: الفن والصراع

تقول سانام ناراجي- أندرليني، ناشطة في شؤون المرأة والسلام، ”أينما وجد العنف و الحرب، وجدت النساء – ولديهن ما يحدثنا عنه.“ في حين انشغل العالم بحل المشاكل السياسية المعقدة، أخذت النساء دورًا محوريًا في مشاهد هذه النزاعات. وقد أثرت الحرب على الصحة العقلية والجسدية، واستنزفت الوضع الاقتصادي، وتهدد أمن ومستقبل الأطفال من خلال تعريضهم للعنف، بالإضافة إلى إعاقة إمكانية وصولهم إلى التعليم. وعلى الرغم من ذلك، وجدت النساء وسائل لتعزيز السلام والانخراط مع المجتمع بإستخدام طرق واسعة الحيلة والإبداع.  لقد تم تصوير المرأة اليمنية في وسائل الإعلام على أنها مكبوتة وغير متعلمة وعاجزة. لا أحد يرى أن المرأة تقف شامخة وهي تحاول حل الصراعات وحماية أسرتها والسعي نحو مستقبل أفضل. دُفِعت النساء اللواتي اعتدن البقاء في المنزل والاعتماد على أزواجهن في توفير قوت الأسرة إلى توليد دخل للأسرة بأنفسهن. كسرت النساء القيود المفروضة عليهن في مجتمعاتهن التقليدية من خلال إيجاد فرص العمل ولعب دور رئيسي في بقاء الأسرة. تزدحم الأسواق يوميا بالنساء اللواتي يبعن الخضروات والخبز الذي يتم إعداده في المنزل. و تهيمن وجوه النساء العاملات على كل المجالات. و أينما ذهب المرء اليوم، وجد النساء يكافحن من أجل الحياة بعد أن كان من النادر في العديد من المناطق قبل الحرب أن تترك المرأة منزلها وتتفاعل مع الرجال في الأماكن العامة.

على الرغم من الترهيب والقمع في تجربة المرأة اليمنية، إلا أنها اظهرت صمودها و مشاركتها في بناء السلام وعملهن على تجاوز الصراع. وتعتبر ندوى الدوسري مثالا على ذلك، فهي امرأة يمنية تعمل منذ عام ٢٠٠٥ على تنفيذ برامج في المناطق القبلية النائية، وتتعامل مباشرة مع مختلف الفصائل للمساعدة في تعزيز ثقافة إدارة الصراع والتنمية التي تراعي حساسية النزاعات. لقد ارتقت النساء من كل انحاء هذا البلد المكسور وبكل الوسائل الممكنة إلى مستوى التحدي. إن تسليط الضوء على مثل هذه النماذج قد يساعد على تمكين النساء الأخريات في أن يكن قدوة بأنفسهن. كونك مثالا يحتذى به ليس شيئًا تختارينه في وقت محدد، فهو يأتي بعد أن توقفي حياتك لخدمة الأفراد والمجتمع.

وتوضح سارة: ”أعتقد أن حقيقة وقوف امرأتين وراء أفلام قُمرة وقاعدة الفن اليمني ترسل بالفعل رسالة حول الدور الذي يمكن أن تلعبه النساء في هذه البلد إذا أردن ذلك، وبالدعم المناسب من أسرهن ومجتمعهن“.  تصور وسائل الإعلام الجانب المظلم من كل وضع محتمل في اليمن، ولكن الأمل يبزعند تسليط الضوء على النساء اللواتي يجتمعن معا ليستمعن لبعضهن البعض ولإعارة أصواتهن لأولئك النساء اللواتي تم انتزاع أـصواتهن منهن. وتضيف سارة، ”نقوم بالكثير من الأعمال التي تركز على قضايا المرأة في أفلام قُمرة. أقوم حاليا بتطوير فيلم روائي عن المرأة في اليمن. هدفنا هو تدريب أكبر عدد من صانعي الأفلام في الفترة المقبلة، ونأمل أن نجلب المزيد منهن إلى فريقنا. أعتقد أن  في كوننا نساء يصنعن أفلامًا عن النساء ما يمنحنا مساحة مرحبّة وآمنة من أجل تمكين النساء.“

تمكين الشباب وتغيير السردية

تقاس المجتمعات من خلال مساهمتها في الفن. اليمن بلد يغرق فيه الموهوبون تحت ركام من الفقر، والفهم الديني الخاطئ، والحرب. غير أن التعبير الفني  ضارب أطنابه في بنية هذا المجتمع، ويتجلى ذلك ماديا في فنون تقليدية كفنون الحياكة  والتطريزالملون وكفنون الموسيقي اليمنية العريقة. وبذلك فهذه البلد لا تعاني شحا في الفن مهما كانت العقبات التي تعترض صناعته ونشره.

 والمعلوم القصة التي تروى عبر الصورة المتحركة (الأفلام) تلتقط الارتباطات من خلال العواطف. إن لدى الأفلام القدرة على تغيير وجهات النظر الراسخة. كما أن خلق مشاعر الفخر والتعاطف والحب والاشمئزاز والصواب والخطأ كلها في أيدي صانعي الأفلام المتمكنين.

 الصورة بإذن من أفلام قُمرة وقاعدة الفن اليمني

الصورة بإذن من أفلام قُمرة وقاعدة الفن اليمني

يمر اليمن اليوم بمرحلة تحريض سياسي، حيث تتغير الولاءات من يوم إلى آخر ومعظم الأراء مرتبكة. في وسط هذه الأجواء، يتم سحق الكثير من الاحتياجات الحيوية للمجتمع وتجاهلها تحت وطأة الاهتمامات السياسية الكبيرة. وهنا توضح سارة دور صناع السينما في اليمن وواجبهم تجاه المواهب الشابة. تقول: ”في الوقت الذي يتم فيه تسييس وإضفاء صبغة استقطابية وبُعد واحد على معظم التغطية الإعلامية عن اليمن، إن لم يكن جميعها، نستطيع نحن كمرشدين منح صانعي الأفلام الشباب الدعم والمساحة غير الخاضعة للرقابة و”الإذن” لرواية قصصهم بالطريقة التي يريدونها، وهذا وهو الشيء الأكثر تمكينا لهم الذي بوسعنا تقديمه لهم“.

عادة ما يواجه الشباب،  في بلدان الرفاه والأستقرار، شعوراً بفقدان البوصلة، و عندها غالباً ما  يسعون إلى خلق خبرتهم الفردية من خلال التجريب. يمارسون الحياة بروح حرة ومغامرة، ويعيشون هذه التجارب دون اكتراث كبير. غير أن القصة تختلف في الدول التي تعاني من تداعيات الحرب. فالأفلام والفن في بلدان الصراع تعد بمثابة متنفس يتمكن من خلاله الشباب من التعبير عن مشاعرهم من جهة، ومن خلق محيط مهني وإبداعي يشجع ويغذي مواهبهم وأفكارهم، و هو أمر في غاية الأهمية. ”من المدهش أن تأثير الحرب على المجال الفني ذو وجهين مختلفين. فعلى الرغم من الضغط الشديد والوضع المتزعزع الذي يواجهه الفنانون في اليمن، فإنهم  قد وجدوا مساحة للعمل على فنهم خلال فترة الحرب التي اتسمت بالركود في الحركة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى بينما يستخدم هؤلاء الفنانون فنهم من أجل الهروب بعيدا عن الواقع المرير، فإنهم يوظفونه، أيضا، من أجل توثيق ما يواجهونه يومياويرونه بعيونهم. وتوضح يسرى عن المتنفس الذي يوفره الفن للفنانين خلال فترة الحرب وانتشار المعتقدات الدينية المتشددة قائلة: ”وسعت الحرب رؤية الفنانين وجعلتهم يرون العالم  بشكل مختلف. فرغم الحزن وألم، استطاع هؤلاء أن يتعاملوا مع الوضع الصعب من خلال إنتاج أفضل ما لديهم”. فبدلاً من الوقوع في حالة من التردد واللايقين، استطاعت مؤسستا أفلام قُمرة وقاعدة الفن اليمني أن تخلقا مساحة فنية قد يكون من شأنها المساهمة في خلق مجتمع منفتح ومبدع يحمي الشباب  من الوقوع في مستنقع الحرب والعدائية التي تسود المجتمع اليمني الأوسع. الفن رسالة. والقدرة على العثور على رسالتك وإيصال صوتك يساهمان في بناء الشخصية وتغيير المجتمع.

يستطيع أي شخص  إنكار أهمية الفن وتصنيفه بأنه مضيعة للوقت، بل وعده إثما. أما الفنانون فإنهم يكتسبون القوة والطاقة من خلال صنع أعمالهم واستخدامها لدفع العقائد الجامدة بعيدا. تنتج أعمالهم حسًا بالجمال في المجتمعات وترفع من الإهتمام العام بالفن. يقال إن الأنسان يختار معاركه في الحياة، وفي هذه المعارك يختار الأدوات للمضي قدمًا. ”أعتقد أن التاريخ الحقيقي من تأليف الفنانين، وليس السياسيين، فإذا كنت تريد معرفة المزيد عن تاريخ بلد ما، فإن عليك الذهاب إلى المتاحف ورؤية اللوحات والأعمال الفنية التي أنتجتها تلك المجتمعات”. “وهذا ما نحاول تحقيقه“، تضيف يسرى. الشعور بالفخر والوطنية بعد مشاهدة فيلم يصور جنودا يقاتلون لإنقاذ الأرواح والأوطان، وسحر قصة رومانسية تروى عدة مرات ولكنها تبدو مختلفة في كل مرة ، كلها أمور تستدعي ذكريات الأحلام المفقودة والطموحات المكتسبة. إن سحر الفن يكمن في قدرته على البحث في كل  زاوية من ذاكراتنا؛ و في خلق حقائق جديدة؛ و في إعطاء الناس مساحة  مهمة من أجل الهروب والتعبير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى