أدب
أخر الأخبار

محمد المجاهد.. ابن الغصن النضير

This post is also available in: English (الإنجليزية)

إنه صاحب كتاب “مدينة تعز غصن نضير في دوحة التاريخ العربي”. من يتصور أن العمر لو امتد بهذا الرجل عدة سنوات لكنا رأينا وجها آخر لتعز؛ المدي القديمة تحديدا! نعم المدينة القديمة وما يحيط بها من أسوار  وأبواب وإطلالات  ومنتجعات.. إنه محمد بن محمد المجاهد”1952- 2001م”، العاشق لجمال الأمكنة الأثرية والمؤرخ والقاص . لا أدري هل مر هذا الاسم اليوم على شبابنا وفتياتنا اللذين يدرسون في المدارس والجامعات العربية؟. المجاهد ابن مدينة الدولة الصليحية ومن بعدها الدولة الرسولية التي امتد حكمها بين عامي  1229″- 1454″ ..الدولة التي فتنت أديبنا وجعلته هائما بين مناراتها وزخارفها وأسواقها ومنشئاتها الأسطورية وحكايات حكامها التي أدهشت العالم. و كل ذلك سطرته أنامله في كتاب ” مدينة تعز غصن نضير في دوحة التاريخ العربي” .  لقد مرّ محمد على بلادنا خفيفا كأنه ريشة عصفور لكنه ثاقب الرؤية يمتلك عينين تثيران الدهشة قلما ترى شبيها لهما وخلفهما يعدو عقل متحفز يسابق أفكار نيتشه  ونيوتن … كل يوم لديه فكرة عملية  للناس والأرصفة والشوارع بحدائقها وفضاءاتها المكبلة بالبنايات التي حجبت الكثير من جمال المدينة .. كل يوم لديه معركة مع القبح..لا يستطيع أن يمر أمام ظاهرة غير جيدة دون أن ينبه إلى مخاطرها.. ولا يستطيع أن يرى خطأ دون أن يرشد صاحبه إلى ما يجعله يتحاشاه ويرشده إلى مكامن الضوء والقوة.. القوة التي كان يرى بأنها في الأخلاق عادة.

الصورة من داخل باب موسى – تصوير البراء المنصور

أجدني وأنا أكتب عنه كلما حاولت الهروب من الكتابة الإنشائية تجرني الأخلاق القويمة لذلك الإنسان النبيل .. ولعلي إنما أريد أن أقترب من تصوير كتابي معين لفهم شخصيته المتواضعة البسيطة في ظاهرها والعميقة الدافئة في باطنها. ولا بد ، هنا، من الغوص في أعماق هذه الشخصية؛ وذلك لغزارة مشاعره التي عاش بها فوق هذا التراب الذي يدنس اليوم بالدماء الطاهرة. اليوم يتناسى المحتربون القساة  ذلك التراكم المدني الذي حاول جيل من التنويريين الأحرار أن يحافظ على قدسيته وطهارته..  كان  محمد مسكونا بعبق التاريخ المشرق.. يتحدث ويتحرك بروح الإنسان الصبور الذي تملؤه النخوة والشهامة والمحبة وبجسده الناحل ووجه الصافي وحركته الدائبة.. كان لديه تصور رسمه في ذهنه لمدينة تعز القديمة.. فبعد أن ألف محمد كتاب “تعز غصن نضير في دوحة التاريخ العربي” الصادر عن دار عدن للطباعة والنشر عام 2007؛ أحس باكتمال مشروعه النظري وبدا الأمر كما لو أن هناك التزاما ضمنيا وغير معلن في أن تشفع المعرفة بالعمل .. كان لابد أن يترجم الكتاب الايقونة إلى واقع عملي. وقد استطاع في فترة وجيزة أن يلتقي بالجهات التنفيذية في المدينة وبالوجهاء والأعيان وأقنعهم بتصوره حول إعادة المدينة القديمة  كما كانت في التاريخ وأن ذلك لن يكلف الكثير؛ لن يكلف سوى الإخلاص والايمان والعمل.. وبالفعل حشد فقيدنا كل طاقاته وإمكانياته المادية والفكرية. وكان قبل أن يتوفى قد أخذ  المهندسين المعنيين والمقاولين إلى قلعة السراجية. وأتذكر أن المعدات والآلات كانت قد نزلت إلى الموقع للبدء بالعمل في إعادة قلعة السراجية والسور المحيط بها الذي سيمتد إلى قلعة القاهرة. وكانت هذه البداية التي سيعقبها سور تعز البديع بأبوابه ونوباته المتقاطرة وسقوفه التي سيملأها زخارف وأحزمة تحاكي ملامح البناء الرسولي القديم – كما كان يصرح دائماُ- ولكن بروح جديدة  وإحساس جديد.

الصورة تم التقاطها من بين قباب جامع المظفر ويظهر أمامها جامع الأشرفية – تصوير البراء منصور

أكتب اليوم عن هذا العلم انطلاقا من المسؤولية التي تستدعي محطات مضيئة كنت شاهدا عليها. وأكتب، أيضا، تحت إلحاح الذاكرة في وجه وطأة النسيان لدى الجيل الجديد المشغول بمأساة الصراع. من محاسن الصدف أنني تعرفت في 1992م على الصديق الناقد محمد ناجي أحمد الذي عرفني بكاتبنا ومؤرخنا الفذ محمد المجاهد. فقد كان مقر فرع اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين مقابلا لمكتب السياحة الذي يديره محمد في حي حوض الأشراف .. لاحظت حينها أن الشيء الجوهري الذي يكمن في شخصية الرجل – إضافة إلى سمو أخلاقه – إيمانه العميق بأن الجمال ملقى في الطرقات، حسب عبارة الجاحظ. وأن هذا الجمال الذي تزخر به مدينته تعز لا يحتاج إلا إلى ناظر متذوق وصاحب مسؤولية يعمل بجد لجلاء ذلك الجمال الكامن. وقد لفت نظري يوم التقينا إلى جمال المدينة القديمة  فحدثني عنها بالتفصيل الممل.. حدثني عن القيمة اللامحدودة لكل من جامع المظفر ومسجد الأشرفية والمعتبية وقبة الحسينية وقبة الشاعر الصوفي العارف عبد الهادي السودي. و بالمناسبة هذه القبة الأخيرة حولتها الحرب قبل عامين إلى ركام. ولو أن العمر امتد بمحمد المجاهد وشاهد ما حدث للقبة لمات كمدا عليها؛ ذلك أنه كان يفخر بمسكنه جوار أكبر قبة في الجمهورية اليمنية، حسب عبارته.

كان وهو يتحدث يشحذ ذاكرته على التخييل فيمزج في هذا القالب الخيالي بين حياة الناس وألبستهم وإيقاعاتهم اليومية وبين المنارات والقباب والزخارف والقلاع وما يتداخل مع ذلك من موسيقى شعبية تسمعها هنا وهناك.

 وفي كل يوم كنا نلتقي بها نتحدث عن نفس الموضوع ولكن في جزئية جديدة؛ فمثلا الرسوم التي تغطي القباب والمساحات من الداخل تزداد لمعة مع تقادم الزمن والأحزمة والخطوط كان يتم انتقاؤها بعناية حتى لا تشغل المصلين؛ ما يعني أن ثمة لمسة صوفية تغلف المكان. يرى محمد المادي والمجرد والأرضي والمتعالي في الزخارف والعمارات يتعانقان دون أي نشاز. كانت تبدو المدينة لمحمد  متحفا كبيرا يفاخر دائما أنه يعيش ويتنقل بين جنباته. وقد كان كلما فتح نافذة الحديث عن معالم تعز القديمة تتلامع عيناه وتتفتح أسارير وجه.  يتحدث عن المعالم و كأنه يتحدث عن أبنائه معددا خصال كل طفل على حده.

الصورة من داخل الباب الكبير- تصوير البراء المنصور

إذا حدث والتقيت بمحمد المجاهد، أيها القارئ العزيز، في عالم الملكوت الأعلى، فإنه سوف يحدثك عن تعز وأبوابها التي تحطمت .. تلك الأبواب التي لم يعد لها من الملامح سوى القليل.. وسيقودك إلى أماكن وقباب ومساجد ومدارس أثرية وقلاع  تحطمت ملامحها واندثرت وشبعت موتا؛ لكنها لم تضع من وجدان الرجل فقد حلم أن يعيد كل شيء كما ينبغي أن يكون.. سيخبرك أيضا أن ثمة شبها بين هذا الأثر وأثر آخر يوازيه  في مصر؛ أوالعراق؛ أو سوريا؛ أو المغرب أو واحد من الأماكن العربية التي تسكن مخياله ووجدانه.

اشتغل  أديبنا في العديد من المناصب قبل أن  يتوفى بحادث مروري. أهم تلك الوظائف  مدير عام مكتب السياحة بتعز؛ وهو ما يعني انني أتحدث عن رجل عرف الوظيفة العامة وتقلدها بجدارة.. أتحدث عن رجل شارك صباحات المدينة عدوها نحو المستقبل وشارك الناس أحلامهم وآمالهم ثم فكر معهم بصوت مسموع.

في فترات من العقد الماضي كنت أطل من تبّة فندق الأخوة المقابلة للمدينة القديمة فأرى أمامي حلم محمد المجاهد في إعادة سور مدينة تعز وأبوابها.. أتخيل المدينة البيضاء في كامل بهائها تغصّ بالسياح والزائرين، والعشاق. أراها مدينة لا يتسرب من نوافذها سوى نور الفرح ولا يعلو من مآذنها سوى صوت القادم الجديد.

و هنا أختم بأمنية أتمناها على أصدقائه ومحبيه وهي  أن يعملوا على طباعة ما تبقى من كتبه، وقصصه القصيرة، و أيضا كتاباته الحميمة التي سطرها في عمود شهير في صحيفة الجمهورية.

باب موسى – تصوير البراء المنصور

محمد عبدالوكيل جازم : يعمل باحثا في مركز الدراسات والبحوث اليمني. حصل على الماجستير في مجال النقد الأدبي من المغرب. و هو الآن باحث في مساق الدكتوراه بأكاديمية الفنون الجميلة في القاهرة. و له عدد من المؤلفات القصصية والفكرية و النقدية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى