رأي
أخر الأخبار

أزمة “أصوات السلام” في اليمن: أربعة أسئلة

“أدركت عندئذ أنه قد نسي حقًا جميع الكلمات التي تجري على ألسنة الناس، وبدا لي ذلك أمرًا خطيرًا: ألّا يعرف كلمة واحدة تصدر عن نفسه، ألّا يعرف فكرة واحدة تنبع من داخله…”

الدرويش والموت

ميشا سليموڤيتش[1]

في ثنايا ما يمكن أن نسميه تجوّزًا “نقاشًا” حول مسألة السلام في اليمن جوانب مختلفة يجب استقصاؤها ابتداءًا بالتفكير في السلام ذاته، مرورًا بالشق السياسي وبناء مشاريع محددة للسلام، والمقوّمات والشروط التي يجب أن تتوافر اجتماعيًا واقتصاديًا لإنجاح هذه المشاريع، وانتهاءًا بالمشاكل الاجتماعيّة والتنظيميّة التي لا تعرقل تلك المشاريع فحسب، بل وتعيق نقاشها كذلك. هذه المقالة تقارب خيطًا من نسيج الموضوع الأخير بتكبير الصورة ومناقشة بعض المشاكل التي تتعاور، تحديدًا، رؤية أو خيال المنظمات غير الحكومية اليمنية والدوليّة المشتغلة بموضوع إنهاء الحرب في اليمن والشخصيات العامة التي تعمل في نطاقها، والتي يقدم بعضها نفسه بصفته “أصوات السلام في اليمن”، إما باستخدام هذه الكلمات بالضبط وإما بما يشاكلها من مجازات تؤدي نفس الغرض. المقالة لا تعترض على هذا التعريف بالذات؛ من حق كل طرف أن يعرّف نفسه كما يشاء شريطة استعداده تحمّل التبعات والمعايير التي يفرضها كل تعريف بالذات في المجال العام.

لا يحاول المقال استقصاء أزمة “أصوات السلام” والبحث في مختلف جذورها، بل يشير إلى بعض الجوانب فيها عبر مقاربة أربعة أسئلة موزعة على أربعة محاور: ما هو تصوّر السلام الشائع عند المنظمات اليمنية غير الحكوميّة الممولة المشتغلة بموضوع السلام؟ وما هو دورها فيما يسمى “صنع السلام”؟ وما هو أهم ملمح أزمتها؟ وكيف يمكن تجاوز هذه الأزمة؟

 أولًا: “اتفاق استكهولم” والأصوات المعكوسة

كل تصور للسلام سياسي بالضرورة، وبالتالي فنقاش مشاريع السلام يمنيًا، التي تستحق تسمية مشاريع، ينبغي ألا يُستهلك في الجدال عما إذا كان سياسيًا أم لا؛ فهذا أمر مفروغ منه. ما يجب مناقشته هو مدى ملائمة المشروع المقترح للواقع، وهذا النقاش يبدأ بإجراء تمييز أوّلي بين مدى ملائمة المشروع للواقع الذي يستهدفه، وملائمته للأطراف التي تقترحه. ذُكر في مقالة سابقة أن ثمة ثلاثة ممكنات رئيسية للسلام في اليمن:

1.إلغاء الحكومة وبقاء المليشيات 2. تعايش الحكومة مع المليشيات 3. إلغاء المليشيات وبقاء الحكومة.  المقاربة الدولية الراهنة التي يمثلها المبعوث الأممي الحالي السيد مارتن جريفيث تميل برأيي إلى الممكن الثاني؛ أي وقف إطلاق النار وتعايش الدولة مع المليشيا الحوثيّة والمجلس الانتقالي.

يمكن استنتاج ميل المبعوث الأممي لهذا الخيار من أمرين: الأول عدم تشديده على المرجعيات في حديثه عن المشاورات وتصوراته للحل، وعلى رأسها قرار مجلس الأمن 2216. قرار مجلس الأمن يتخذ من الممكن الثالث أفق الحل المعقول للأزمة اليمنيّة، وهذا ما كان عليه الحال في مفاوضات الكويت 2016؛ لم تكن تلك المفاوضات حول حق حلف “الحوثيين-صالح” في اقتسام الدولة أو الإبقاء على سلاحه، بل كانت تدور بالأساس عن كيفية تفكيك هذه الأطراف لنفسها لصالح الحكومة بناءًا على القرار الأممي والمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني ضمن صفقات سياسية موسعة لا تجعل حلف الحوثيين-صالح يخسر كل شيء. وبالتالي ليس صحيحًا أن مقاربة غريفيث هي “المقاربة الأممية”، بأل التعريف، للحرب في اليمن وأن هذا ديدن الأمم المتحدة منذ اندلاع الحرب، بل هو خيار ومسار اتخذه غريفيث (مثل زميله جمال بنعمر) لاعتبارات مختلفة مخالفًا بذلك المبعوث السابق السيد إسماعيل ولد الشيخ الذي كان له تصوّر آخر وهو ذلك المتوافق مع المرجعيات[2]. والمؤشر الثاني بلاغي؛ حيث يكرر المبعوث الأممي جملة ملفتة في دعوته لأطراف الحرب إلى طاولة المفاوضات وهي “الذهاب إلى المفاوضات بدون شروط”، وهذه جملة لا تصبح مفهومة إلا بمعنى التخلي عن المرجعيات المعروفة في المفاوضات. لا توجد في الدنيا مفاوضات مثمرة بين متحاربين بدون شروط؛ التخلي عن أي شروط أو سقف يجري التفاوض تحته يكون بين منتصر ومهزوم، حينها يكون التفاوض بلا مرجعيات مثمرًا لأنه لا يحسم شيئًا؛ فالمنتصر حسم كل شيء سلفًا. دعمًا لهذا الاستنتاج بشأن تصوّر غريفيث للأزمة اليمنيّة ينبغي استحضار اتفاق استكهولم في ديسمبر 2018؛ فالرؤية الكامنة وراء هذا الاتفاق هي باعتقادي رؤية مكتب المبعوث للشأن اليمني، والنموذج الذي يطمح المبعوث إلى تعميمه على مجمل الحرب في اليمن، ومن هنا أهميته في سياق موضوعنا؛ فهو الطرح الذي يبدو أن “أصوات السلام” تسير تحت لوائه ذاتيًا أو تُساق إليه موضوعيًا.

جوهر اتفاق استكهولم كان وقف إطلاق النار رسميًا بين القوات المتقاتلة على مشارف مدينة الحديدة ومنع القوات المناهضة للحوثيين من السيطرة عليها بعد أن كان واضحًا أن الحركة الحوثية ستهزم قطعًا في تلك المعركة، وأما الجوانب غير الجوهرية في الاتفاق فكانت التفاهم على تبادل جميع الأسرى بين الفريقين المتقاتلَين، وشيء ضبابي سُمّي التفاهمات حول تعز[3]. بعد أكثر من عامين على توقيعه، ناتج الاتفاق العملي كان وقف إطلاق النار رسميًا بين القوات في الحديدة، وإيقاف قوات السعودية والإمارات ضربات الطيران فيها، وحفاظ الحوثيّين على مواقعهم ومصادر تمويلهم في المدينة. وفي جانب آخر، بلغ عدد القتلى والجرحى في عام 2019 في الحديدة وحدها 799 ضحية وكانت المدينة صاحبة أعلى رقم في الضحايا بين مختلف المدن اليمنية في نفس العام[4]. كما حصل تقدم في موضوع الأسرى ولكن لم ينفذ منه الكثير، أما تعز؛ فلا يزال الحصار الذي يفرضه الحوثيون عليها مستمرًا، وارتفعت أعداد ضحايا القناصة الحوثيين والقذائف على المناطق السكنية في المدينة. بدراسة هذا الاتفاق ونتائجه نستنتج أن الرؤية التي تحكم هذا الاتفاق تشمل العناصر التالية:

-أولوية الجانب الإقليمي في الحرب، وعليه تكون الأولويّة إيقاف ضربات الطيران السعودي-الإماراتي المساند للقوات المناهضة للحوثيين.

-تكريس الوضع القائم بدون إحداث أي تغييرات في السيطرة على الأرض، حتى تلك التي نص عليها الاتفاق تم التغافل عنها وتطبيع خروقاتها[5].

-تعريف إنهاء الحرب بوقف إطلاق النار.

-التمييز بين وقف إطلاق النار ووقف قتل المدنيين.

العمل الفني لسعد الشهابي

إذا جرّدنا هذه العناصر الأربعة من اتفاق استكهولم سنجد أنها هي نفسها مبادئ تصور السلام الذي يرى إنهاء الحرب ممكنًا بتكريس التعايش بين الحكومة والمليشيات.

للوهلة الأولى، يبدو وصف مكتب المبعوث لاتفاق استكهولم “بالنجاح المتواضع” غريبًا بالنظر إلى فشله في محاوره الثلاثة (الحديدة، الأسرى، تعز)، حتى بمنطق الاتفاقية نفسها وما طرحته من خطوات. ولكن يمكن فهم ذلك إذا استحضرنا أن النظر إلى سياسات أو مشاريع معينة بوصفها نجاحًا مسألة نسبيّة محكومة بأهداف وتصورات الطرف المقيّم لها. لا يمكن لوصف اتفاق استكهولم بالنجاح أن يكون مفهومًا إلا إذا كان “التفكير” القابع خلفه يرى أن أن جوهر الاتفاق نُفّذ وحقق المطلوب منه مبدئيًا، وإن كان نجاحًا “متواضعًا” لأن أغلب محاوره غير الجوهرية لم ينفذ منها الكثير، وهكذا يرى نجاحًا متواضعًا في ما قد يراه الآخرون فشلًا ذريعًا.

مقاربة أطراف دولية للملف اليمني بتصور “التعايش بين المليشيات والحكومة” واختزال الحرب في بعدها الإقليمي تناسب أولوياتها في الإقليم: لجم السعوديّة، والتقارب مع إيران، وربما التقرّب إليها (خاصة مع وصول بايدن إلى الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية)، ومحاربة “الإرهاب”. كما أن مبادئها واضحة: تسليم بموازين القوى على الأرض، وتفضيل التعامل مع المليشيات الطائفيّة التابعة لإيران لأسباب مختلفة.

هذه المقاربة بمبادئ أصحابها وأولوياتهم لا تستحضر الشعب اليمني ومصالحه الأوليّة؛ أي أنها متعالية عن تعقيدات السياق اليمني وتناقضاته، ولهذا فهي مريحة أخلاقيًا: الجميع مخطئون بنفس الدرجة، ولأنهم كذلك فالحل اتفاق يضمن لهم نفس المكان والحقوق، وهذا يكون بأن تتشارك المليشيات (مع بقاء سلاحها ومناطق نفوذها ومقاتليها) مع الحكومة في إدارة شؤون البلاد. أما الانتهاكات الحتمية لحقوق الإنسان التي ينتجها هذا “الحل” فستصدر بشأنها بيانات إدانة واضحة من الحكومات الأوروبيّة والمنظمات الدوليّة دائمًا. هذا السيناريو ليس مبالغات، وربما كان استحضار مشهدين من مصر مفيدًا في هذا السياق لتبيين جديّته. في يوليو 2013، حاولت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون الضغط على الرئيس الراحل محمد مرسي كي يستقيل أو يتنحى، أي الاعتراف عمليًا بالانقلاب الذي حصل ضده، في مقابل خطة انتقال سياسي تضمن مشاركة “الجميع” بما فيهم الإخوان المسلمون. المشهد الثاني بعد 7 سنوات، وتحديدًا في نوفمبر الماضي، اجتمع سفراء الاتحاد الأوروبي بإحدى المبادرات المصرية الخاصة بحقوق الإنسان، مما تسبب في اعتقال الأمن لأعضاء المبادرة، فأصدرت الدول الأوروبية بيانات عديدة تدين وتشجب هذه الاعتقالات. بين هذين المشهدين يتلخص الموقف الأوروبي المريح: تعترف بالقوة العارية، وتؤيد باقتراحاتك ضمنيًا مجالًا عامًا مخنوقًا بقبضة الدولة الأمنية بما يتناسب مع أولوياتك ومصالحك السياسية، ثم تدين جرائم خنق المجال العام الذي ساهمت أنت في تعزيز القبضة التي تمارسه!

  المشكلة مع التصور المستنتج من خطاب وتحركات المبعوث الأممي والموقف الدولي الداعم لجهوده هو ألا مكان فيه لمفردات الدولة الحديثة مثل المواطنة، الحريات العامة، احتكار الدولة للسلاح، وحدة التراب الوطني وغيرها، ليس فقط على أرض الواقع ولكن يستحيل نظريًا أن يكون لتلك المفاهيم مكان في تصور لا يسمح للدولة بحيازة الشروط الأوليّة لاستمرارها وتأدية وظيفتها. لهذا يُعَوَّض غياب مفردات الدولة الحديثة في تصور التعايش بين المليشيات والحكومة بورش العمل حول حق الشباب في المشاركة السياسية وتنظيم فعاليات عن الجندر والمساواة بين الجنسين وما شاكَل. هذا تحديدًا هو المصدر الرئيس لغضب قطاعات اجتماعيّة من مشاريع مكتب المبعوث الأممي ومبادرات واهتمامات كثير من المنظمات الدولية التي تعمل في اليمن. مثلًا مشاركة النساء السياسية والمساواة بين الجنسين ليست أمرًا مؤجلًا أو هامشيًا بالنسبة للقوى التقدميّة في الداخل، ولكنها في فترة الحرب وانهيار البلاد تصبح كذلك إذا لم يقف وراء المبادرات بخصوص هذه الموضوعات تصورٌ لمشاريع سلام تضمن إطارًا يمكن داخله التفكير بتلك القضايا بصفتها أولويّات؛ فإذا لم يحوِ “تصور السلام” فكرة دولة حديثة ديمقراطية، وإذا لم يكن لديه حساسية إزاء الطائفيّة والقسر الديني، والانقلاب على التحول الديمقراطي، والعنصرية وترسيخها بنصوص قانونية، وإهانة وطرد وحبس المواطنين على أساس جهوي، وسيطرة قوى دينية متطرفة ومسلحة تحتقر النساء على جهاز الدولة_  لا معنى لحديث أصحاب ذلك التصوّر عن المساواة بين الجنسين ولهجهم بذكر حقوق النساء. ربما تكون تلك الضجة والورش واللقاءات وسيلة لبناء دوائر اجتماعية ضيقة، أو حملة علاقات عامة لصالح فرد أو إدارة، ولكنها بالنسبة للمجتمع والنساء لن تعني شيئًا. الأشياء الجميلة والأخلاقية لا تحدث لأننا نريدها أو نتحدث عنها؛ هي تحتاج سياقًا وشروطًا وتراكمًا حتى تصبح ممكنة أولًا، وقابلة لأن تُدعَم اجتماعيًا ثانيًا، وحتى تنفذ ثالثًا.

إذًا، تصوّر السلام ذاك مريح ومفيد للقوى الدولية ولمكتب المبعوث الأممي، ولكنه بالنسبة لليمنيين أمر آخر. إذا أراد يمني أن يرى تطبيقًا لهذا التصور (تعايش الحكومة مع المليشيات) ما عليه إلا إجالة النظر في الحالة العراقيّة؛ فيها حكومة لديها جيش وتعيش جنبًا إلى جنب مع مليشيات طائفيّة مختلفة بقيادة إيرانيّة، ونتج عن السياسات الطائفيّة والتجبّر الحقود لقادة هذه المليشيات على المواطنين سخطٌ شعبي كبير ساهم، مع سياسات الاحتلال الأمريكيّ، في ظهور “داعش”. الناتج المباشر لهذا الوضع انفلات أمني مزمن ومعتقلات وسجون وتعذيب سادي لا يتوقف وتحويل الجريمة وقتل المعارضين العُزّل إلى مجرد روتين يومي. المسألة لا تقف عند هذا الحد؛ فصيغة “التعايش” العراقية هذه أنتجت –وهو أمر منطقي- أمورًا جانبيّة أخرى: انهيار مؤسسات التعليم والقطاع الصحي، فشل الدولة المزمن لدرجة عجزها عن دفع رواتب موظفيها، وفساد يلتهم مال الدولة بطريقة يندر مثيلها؛ لنتذكر أن فساد النخب العراقية نهب من العراقيين منذ 2003 حوالي 450 مليار دولار، هذا علاوة على أن المحاصصات بين الأحزاب والمليشيات المرتبطة بها دمّرت القطاع العام، وعلاقات المليشيات بالخارج تترجم ذاتها تكسيحًا للاقتصاد العراقي عبر منعه من بناء ذاته حتى تحتكر إيران وشركاتها الاستثمارات في العراق وترغمه على استيراد بضائع هو قادر على إنتاجها بإمكاناته الذاتية[6]. هذا الوضع يفرز نسب بطالة مرتفعة، وتوسيعَ الطبقة الفقيرة، وظواهر اجتماعية وخيمة. يجب أن نتذكّر هنا أن هذا حال العراق الذي فيه ثاني أكبر احتياطي نفط في العالم، والثري بالموارد الطبيعية والكوادر البشرية الممتازة التي بناها العراق طوال ثمانين عام قبل الاحتلال الأمريكي، ويحمل في داخله إرث الحضارة العربيّة-الإسلاميّة في أفخم عصورها. لنتذكر هذا ولنتخيل نتيجة تطبيق نموذج العراق، بوصفه تصورًا للسلام، في اليمن بظروفها الاقتصاديّة ومشاكلها الاجتماعيّة وقوّة مليشياتها التي تفوق بكثير المليشيات العراقيّة. إن الكابوس الذي نتخيله هو ما يتصوره المبعوث الأممي والقوى الدوليّة حلًا للحرب في اليمن.

مشكلة “أصوات السلام” تتجاوز غياب أي روح نقديّة إزاء التصورات التي تقدمها الأطراف الدولية المختلفة والمبعوث الأممي إلى معادلة خطاب السلام الذي يقدمه الأجنبي/ الغربي/ الدولي و”يناسبه” بالخطاب الذي “يحتاجه” اليمن، لا على مستوى المشاريع فحسب بل وعلى صعيد البلاغة وانتقاء الألفاظ أيضًا. توصيف مثل “أطراف الصراع” يكتبه مثقف يمني في مقال تحليلي، أو سياسي أجنبي تريحه هذه الصياغات اللطيفة التي يستحيل أن يستخدمها في النقاشات العمومية في بلاده[7]، وليس صوت يمني منخرط في نقاش سياسي عن إنهاء الحرب في اليمن. هنا يحدث عكس للاتجاهات؛ فالمفترض أن صوت الداخل اليمني يستخدم مفردات القانون الدولي مثلًا لمخاطبة الخارج وإقناعه باقتراحاته وتصوراته عن السلام، ويخاطب اليمنيين –الذين لا يعنيهم القانون الدولي في شيء- بمفردات مختلفة مثل النضال والحرية والحق بالكرامة والمواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية والخدمات وبناء الدولة، ولكن ما يحدث هو أن “أصوات السلام” تأخذ معجم المنظمات والهيئات الدوليّة، وتتلقّف اقتراحاتها ومشاريعها، ثم توجهها إلى الداخل اليمني! مع العلم أنها لا تخاطب اليمنيين فعلًا، بل تفترض أنها تخاطبهم، أو تخاطب يمنيين مفترضين، وسنعود لهذه النقطة لاحقًا.

مشكلة الاتجاهات المعكوسة ليست مشكلة “أصوات السلام” حصرًا؛ فهذه ظاهرة تتخلل مجمل السلوك السياسي للقوى اليمنية. مثلًا تصر الحكومة اليمنيّة في بياناتها على ذكر جماعة الحوثي مع لازمة “المدعومة من إيران”، بل إن بعض وزرائها يصفونها في وسائل التواصل الاجتماعي بـ “المليشيا الإيرانيّة”. اليمن بلد عربي، ومن المفهوم اتخاذ حكومته موقفًا قوميًا من إيران بسبب تدميرها المنظم للمشرق العربي، وتهديدها للخليج، علاوة على تدخلها في الشأن اليمني بدعمها للحركة الحوثيّة واستخدام اليمن ورقة في معركة النفوذ على الإقليم. لكن من المفترض أن مشكلة الحكومة مع الحوثيين ليست في أنهم مدعومون من إيران؛ فهذه مشكلة المملكة العربية السعوديّة. المشكلة اليمنية مع الحركة الحوثية أنها مليشيا طائفيّة ذات عقيدة عرقيّة انقلبت على التحول الديمقراطي وإصلاح الجمهورية بالتحالف مع ديكتاتور سابق وتمارس العنصريّة وتهدد وجود الشعب اليمني، ولو دعمتها أي دولة أخرى غير إيران فهذا لن يغير شيئًا جوهريًا في الحركة الحوثيّة أو المشكلة معها. ولكن الحكومة تصر في بياناتها على ذكر الدعم الإيراني بل والمبالغة في تصوير حجمه لأنها لا تخاطب اليمنيين في بياناتها فعلًا، بل حليفها -الممكلة العربية السعودية- ومخاوفه.

العمل الفني لسعد الشهابي

ثانيًا: عدم المساهمة بوصفه دورًا

منذ المرحلة الانتقالية (2012-2014)، وبعد اندلاع الحرب في عامي 2014 و2015، ظلت سمة رئيسيّة تزداد عمقًا في المجال السياسي اليمني وقواه المختلفة والمتناقضة، وهي استغناؤها التدريجي عن قواعدها الاجتماعيّة ومحاولة التخلص منها. لا مجال في هذا المقال لنقاش أسبابها، ولكن من المهم التطرق إلى أشكالها. الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته ظلوا طوال سنوات الحرب مقيمين في العاصمة السعودية الرياض، بالتوازي مع تعطُّل/تعطيل غير بريء للقضاء الإداري، والنقاش القانوني، ومراكز الرقابة والمحاسبة. هذا بالتوازي مع تهلهل البرلمان اليمني الباقي من تركة عهد صالح (ربما هو أطول برلمانات العالم عمرًا) وتمزقه بين الحكومة والحوثيين، وعدم تحصيل الحكومة إيرادتها من بيع النفط أو جمع الضرائب من المواطنين. محصلة هذا الوضع أن هذه السلطة اليمنية لا يمكن محاسبتها بيروقراطيًا، ولا قضائيًا، ولا برلمانيًا. كما أنها لا تعتمد في الوقت الراهن على “الشعب” في استمرارها باستثناء القوات العسكرية، ولا يمكن الضغط عليها شعبيًا عبر المظاهرات أو العصيان المدني؛ فهي بيروقراطيّة زئبقية ودولة لا يتصل فيها النظام بقواعد اجتماعيّة بشكل مؤسسي ومنظم. يمكن  قول أمر مشابه عن الأحزاب السياسيّة المختلفة؛ لها قواعد صلبة بالطبع، ولكنها لم تعد مضطرة إلى أخذها بعين الاعتبار عند صنع القرار الحزبي، فامتلاك هذه الأحزاب تواصلات خارجيّة يوفر لها حماية سياسية ومصدرًا ماليًا عوض اشتراكات الأعضاء أو المشاريع التجارية التي يملكها تجار ورجال أعمال حزبيّون، كما أن لبعض الأحزاب اليوم مجموعات مسلحة أو ثمة قادة عسكريون في الجيش محسوبون عليها. هذا كله يحرر قيادات الأحزاب من ضغط قواعدها، أما الحركة الحوثيّة فهي بعقيدتها الطائفية-العرقية، وبامتلاكها البيروقراطية وسيطرتها على عدد الهائل من السكان_ تمارس منذ سنوات الحرب الأولى عملية تحرر عنيف من قواعدها بركلها وخلق قواعد طفيلية جديدة بديلة أكثر طاعة لا تطمح للمشاركة، أما شعبيًا فهي تعزل نفسها عن المجتمع باستخدام العنف المفرط، المادي والثقافي، المتحرر من القانون الحديث والأعراف الاجتماعيّة القديمة في ذات الوقت. والمجلس الانتقالي فيه عيب تكويني يمنعه من التواصل مع القطاعات الشعبية التي يدعي تمثيلها؛ تركيبته الجهويّة وخطابه المتطرّف وإصراره عليهما ينبذان ويقصيان قَبليًا القواعد الاجتماعيّة التي يدعي امتلاكها.

المنظمات غير الحكومية الممولة دوليًا لا تبدو غريبة في هذا السياق، فهي في أساس تكوينها ليست هيئات تمثيليّة، وليست ديمقراطيّة، أي لا تمارس الديمقراطيّة في إدارة ذاتها؛ هي مستغنية قبليًا عن المجتمع/الشعب/الجماهير. وهذا أمر ليس سيئًا في الظروف الجيدة، أي حين يكون المجتمع المدني فوّارًا (صحافة نشيطة، جمعيات أهلية منتشرة، نوادي الشباب، مراكز بحثية منتجة) ومؤسساته الكبيرة والقُطريّة متينة ومؤثرة (تعاونيات الفلاحين، نقابات العمال والمهن، اتحادات الطلبة، التجمعات الثقافية، الأحزاب السياسية). حينها تصبح تلك المنظمات في حجمها الطبيعي على هامش المجتمع المدني وتلعب أدوارًا جيدة تناسب حجمها؛ فهي تسمح لبعض الأفراد بتكوين مهارات مختلفة، كما تنتج بعضها تقارير وتعقد ندوات مهمة ترفد النقاش العمومي بوجهات نظر ومعلومات ضرورية، وتساعد المنظمات الناجحة أعضاءها –وهم أفراد قليلون- على الترقي الاجتماعي وتعلمهم الانضباط والعمل العام، ولكن في ظل الحرب الأهلية، وتفسخ المدينة ومجتمعها، تصبح مشاكل هذه المنظمات مختلفة ومتشابكة، ولكن ما يشغلني منها هو دورها في هذا السياق الجديد.

 يصر مكتب المبعوث الأممي على إشراك “النساء والشباب في صناعة السلام”، وتصبح هذه المشاركة ممكنة عبر منظمات ومبادرات غير حكومية يمنية في نقاشات واجتماعات مختلفة مع المبعوث الأممي، وبدعم من مكاتب الأمم المتحدة، وقد برز مؤخرًا دعم واضح من مكتب الأمم المتحدة للمرأة في اليمن في هذا الاتجاه.

هنا يجب رَصْف مسار النقاش الوعر حتى نصل إلى استنتاجات صائبة:

ثمة ثلاثة مقومات يجب على أي طرف غير مقاتل امتلاك أحدها على الأقل حتى يحوز أهلية نقاش مشاريع السلام في اليمن على مستوى رسمي محلي أو دولي:

  1. صفة تمثيلية ناتجة عن عملية ديمقراطية أو نضال شعبي وانتماء طوعي.
  2. خبرة سياسيّة/تراكم بحثي.
  3. امتلاك تصورات سلام وافية وواقعية.

 هذه المقومات يمكن قراءتها عكسيًا بقول التالي: الطرف الوسيط في عملية سلام يجتمع بأطراف محلية غير مقاتلة لواحد على الأقل من الأغراض الثلاثة التالية:

  1. توفير الدعم الشعبي لمشروع سلام مطروح.
  2. الاستشارة.
  3. الحصول على تصورات يمنية واضحة حول كيفية إنهاء الحرب.

 المنظمات والمبادرات اليمنية الممولة مثل باقي المنظمات غير الحكومية ((NGOs في العالم، ليست هيئات تمثيلية (ولا تدّعي ذلك)، ولكنها تتميز علاوة على  ذلك أنها لا تمتلك قواعد بيانات أو تجري إحصاءات، وأغلبها لا يصدر أبحاثًا ودراسات أو حتى تقارير. كما لا تصدر المنظمات اليمنية التي اطلع كاتب المقالة على صفحاتها ونشاطاتها تصورات سياسيّة محددة عن الحرب ومشاريع إنهائها في اليمن. علاوة على ما سبق، حدث “تطوّر” ملفت هو أن تلك المبادرات والشبكات التي تكاثرت أعدادها في العام الماضي بتمويل دولي وتشارك في “صنع السلام” لم تعد بلا مقرات في المدن فحسب، بل إن كثيرًا منها لا يمتلك موقعًا إلكترونيًا كذلك، وشكل وجودها الوحيد عبارة عن صفحات على منصتي فايسبوك وتويتر.

من زاوية المقومات، هذه المنظمات ليست متصلة بالمجتمع ديمقراطيًا ولا بمشاكله بحثيًا ولا تعتمد عليه ماديًا ولا تحوز قوة المعرفة بشأنه، كما أن كثيرًا منها –مثل أغلب المنظمات في العالم الثالث- بلا أجندة محلية ومحكومة بأولويات الممولين. بالإضافة إلى أن جُل الأوراق البحثية والمشاريع المقترحة عن السلام في اليمن حاليًا صادرة عن مراكز أبحاث وهيئات دولية غربية.

باستحضار ما سبق يغدو إشراك مكتب المبعوث هذه المنظمات في “بناء السلام” عصيًا على الفهم إن لم ينظر إليه من خارج زاوية الأهليّة والمقوّمات؛ أي في إطار تشكيله حلقات صغيرة وظيفتها دعم تصوراته هو عن الصراع و”السلام”، وليس المشاركة في صياغتها. مشكلة هذا التوجه أنه مسبقًا يُفقد مقترحاته بشأن إنهاء الحرب الدعم الاجتماعي اللازم لاستدامتها؛ لأنه لا يشرك قوى المجتمع التمثيلية أو كوادره من الخبراء والمثقفين. عوضًا عن ذلك، يتجه مكتب المبعوث وهيئات الأمم المتحدة نحو سياسة معادية بعنف للديمقراطيّة بمعناها الواسع، وتستحق غرابتها التأمّل الطويل: تتلخص هذه السياسة في تقديم هيئات الأمم المتحدة مشاريع دعم للمجتمع المدني بشروطها واتجاهاتها، وعبرها تُخلّق كيانات محليّة في إطار رؤية مكتب المبعوث الخاصة للأزمة في اليمن -والتي لا يشارك طرف يمني ذو أهلية في صياغتها- وضمن أولويات وجدول أعمال القيادة الإقليمية لهيئات الأمم المتحدة التي تساعد مكتب المبعوث في مهمته باليمن. ثم يعود مكتب المبعوث ويختار تلك الكيانات ذاتها التي أنشأتها برامج دعمه ويدخلها في المشاورات والتحاور بشأن “صناعة السلام”!

هذا ليس أمرًا عارضًا، ولكنه إفراز منطقي لرؤية مكتب المبعوث الأممي والهيئات الدوليّة للصراع في اليمن، ونستطيع إيجاد قرائن أخرى تعزز هذا الاستنتاج. مثلًا رابطة أمهات المختطفين لا تلعب دورًا جديًا يذكر في مشاورات المبعوث ولا ورش عمل وندوات الهيئات الدولية المختلفة المشتغلة بالسلام، رغم أنها تمتلك الأهلية للعب دور بارز في هذا الشأن؛ فهي هيئة مجتمع مدني ذات صفة تمثيلية (أهالي المعتقلين)، وتصدر تقارير، ولها مصلحة مباشرة في إنهاء الحرب باليمن.

هذه السياسة التي يتبعها مكتب المبعوث الأممي تحوّل موضوع السلام إلى صناعة تعتاش عليها مجموعات ضيّقة وتضمن لها الترقي الاجتماعي، ولكنها تضر النقاش العمومي حول الحرب، ولا تساعد على توفير بيئة معقولة حتى تنتج قوى المجتمع المدني ذات الأهلية تصوراتها الأصيلة حول  موضوع إنهاء الحرب.

العمل الفني لسعد الشهابي

ثالثًا: اليمن الشبحيّة

ذُكر آنفًا أن المشتغلين بالسلام في اليمن لا يتحدثون فعلًا إلى اليمنيين، بل يتحدثون إلى يمني شبحي لا وجود له، وهذه نقطة تحتاج مزيدًا من الفحص؛ فهي ليست محصورة في الكلمات والأسلوب البلاغي، بل تصل إلى أعماق أهم.

أ-غياب المعلومات

أغلب المنظمات اليمنية التي اطلع الكاتب على أعمالها تحضيرًا لهذه المقالة لا تصدر تقارير وأبحاثًا وإحصائيات حول الواقع الراهن، وتستعيض عن ذلك بالاعتماد على إحصاءات المنظمات الدولية في تصورها للأزمة اليمنية. هذه المنظمات بدورها تعتمد غالبًا على إحصاءات ومسوحات مراكز المعلومات والإحصاء البيروقراطيّة المحلية ولا تنجز الاحصاءات أو تجمع بنفسها المعلومات، وهذا أمر مفهوم (وطبيعي) في فترات الاستقرار، ولكن في مرحلة الحروب التي تعطّل جهاز الدولة أو تدمّره، تصبح معلومات المنظمات الدوليّة مشكلة تشوّش فهم الواقع وتحديّاته.

على سبيل المثال، ومن باب إظهار مأساة الحرب في اليمن، تتحدث منظمة اليونسيف عن عدد وفيات الأطفال في اليمن، وتظهر أرقامها مؤشرات غريبة[8]، حيث تظهر أرقام وفيات الأطفال في 2018 أقل سوءًا من 2010م ! وفي معرض حديثه عن كارثة انتشار فيروس كورونا في اليمن في ظل الحرب وانهيار القطاع الصحي، أشار ممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي السيد أوكي لوتسما، أن ثمة 3 أطباء لكل عشرة آلاف يمني. هذا رقم مخيف فعلًا، ولكنه يعود إلى العام 2014م؛ أي قبل اندلاع الحربين الأهلية والإقليمية التي دفعت بالتأكيد الكثير من الأطباء للهجرة، علاوة على بعض الأطباء الذين سقطوا قتلى في الحرب ولقوا مصرعهم بسبب فيروس كورونا، ومع التذكير بأن الهيئات المنتجة للأطباء في البلاد وهي كليات الطب تعاني الكثير بسبب الحرب وبعضها توقف عن التدريس، ولا نسمع المستائين الحزانى على الوضع الصحي في اليمن يناقشون كثيرًا سبل إنقاذ كليات الطب وطلابها حتى تستمر في إنتاج أطباء في ظل هذا الوضع الصعب. في كلام آخر، هذه المنظمات تتحدث عن كارثية الحرب اليمنية بإحصائيات ما قبل الحرب وفترات “الاستقرار”، وتصور ذلك على أنه من ظروف الحرب. هذه الأرقام إن كانت تفعل شيئًا فهي أنها تشوّش على نتائج الحرب الحقيقية التي من المرجّح أنها أصبحت أسوأ بكثير. المشكلة هنا أن المنظمات اليمنية المختلفة تظهر لا مبالاة مؤسفة بالواقع اليمني، بدليل أنها تكرر هذه الإحصائيات علامة على “مأساة الحرب” بدون أن تجشم نفسها عناء مقارنتها بإحصائيات وأرقام أخرى في فترات سابقة، وهذا يعني أنها لم تطّلع أصلًا على تلك الإحصاءات السابقة؛ أي أنها لم تُفكّر يومًا في فهم المؤشرات الرئيسية في الاقتصاد والمجتمع اليمنيين. وحتى عبارات المؤسسات الدولية المحفوظة، مثل “تعاني اليمن أسوأ كارثة إنسانية في العالم”، لا تسائلها المنظمات المحلية و”أصوات السلام” لفهم المعايير والحيثيّات التي تجعل أمثال هذه العبارات صحيحة ويمكن البناء عليها لفهم الواقع الاجتماعي والاقتصادي اليمني؛ خاصة مع قضايا الفساد التي تورطت فيها بعض المنظمات الإنسانية الدولية في اليمن[9]، وبعد معرفة الحجم المهول من الأموال (قرابة 20 مليار دولار) التي تلقفتها تلك المنظمات في السنوات الأربع الأولى من الحرب فحسب، في بلد كانت موازنته العامة قبيل الحرب في عام 2014 تبلغ  13.4 مليار دولار.

ب-قضايانا يحددها الآخرون

 ذروة الأزمة التي تعيشها أصوات السلام هي تصورها الشبحي لليمن، وافتراض “يمنيين” لا تربطهم باليمني وشروط وجوده الحاليّة صلات معقولة. هذا يظهر كما رأينا في الاتجاه المعكوس لخطاب السلام الذي يستورد تصورات وقاموس الخارج عوض مناقشتها وطرح رؤى ذاتية مبنية على تحليل للمسألة اليمنيّة واستحضار مصالح اليمنيين بأكبر قدر ممكن من الدقة والتحديد، ويمتد هذا السلوك إلى نوع القضايا ذاتها التي تنخرط أصوات السلام فيها باعتبارها ستخفف معاناة اليمنيين، وستفتح طريقًا لإحلال السلام. مثلًا انخرطت منظمات وشخصيات يمنيّة منذ بداية الحرب في مطالبة العالم بمنع تصدير السلاح للسعودية تمهيدًا للسلام وتخفيفًا لمعاناة السكان في الحرب.

يدرك كل يمني أن السعودية والحكومة لا تقاتلان عُزّلًا في اليمن، بل مليشيا تمتلك دولة وسلاح جيش بدأ الحرب ويقتل اليمنيين أيضًا، وأي مطلب بمنع السلاح عن السعودية لا تكتمل “أخلاقيته” إلا بوضع سلاح المليشيا الحوثيّة في دائرة مطالب تسليم السلاح للحكومة، وإلا أصبحت المسألة خيارًا سياسيًا يتنكّر بزي العمل الإنساني. كما أن كل مطالب يمني بمنع تصدير السلاح إلى السعودية يدرك أن هذا، حتى إن حدث، لن يمنعها من شراء السلاح عبر وسطاء وطرق غير مباشرة. هذا المطلب لم يخرج من اليمن أول الأمر، بل من منظمات وشخصيات أوروبيّة وأمريكيّة؛ فهو مطلب مريح لها ويحقق لها تفوقًا أخلاقيًا مجانيًا؛ فهي لا ترى اليمنيين ومعاناتهم ولا تهتم بسياق الصراع اليمني، هذا إن لم نذكر الأبعاد السياسية وحتى الدوافع الثقافية وراء مطالب مشابهة، وكل مشكلتها تتركز في صورتها أمام الرأي العام في دولها. ولكن بعض “أصوات السلام” انخرط في هذه الحملات بجديّة رغم أنها لا تحقق غرضها بالنسبة لليمنيين، وتخدم “ضمير” وأغراض منظمات غربية لا ترى اليمن أبدًا إلا بعدسة العلاقات الشائكة لأوروبا وأميركا مع السعودية، في حين أن الكارثة الحقيقية التي سببتها السلطات السعودية على اليمن التي كان يجب أن تبذل كل الجهود وتمارس كل الضغوط على السعودية لمنع وقوعها _ لم يهتم بها أحد، لا الحكومة اليمنية، ولا أصوات السلام اليمنية ولا “نظيرتها” الغربية، ومرّت بهدوء مذهل. في عام 2018 بدأت السلطات السعوديّة في توسيع سياسة السعودة من جهة ورفع رسوم الإقامة للمهاجرين من جهة أخرى، وكان لهذا أثر كبير على اليمنيين؛ كثير من العمالة اليمنية في السعوية عمالة غير ماهرة، أي أن مداخيلها منخفضة بالأساس، ورفع الرسوم يعني تكديحًا للعمالة وقضمًا من تحويلاتها إلى الداخل اليمني، كما أن سياسة السعودة تلفظ اليمنيين إلى خارج البلاد؛ في النصف الأول من 2018 فقط رحّلت السلطات 17 ألف مغترب يمني إلى بلدهم الذي يعيش حربًا السعودية طرف رئيسي فيها! استمرت السياسات السعودية بدون توقف في 2019 وحتى مطلع 2020، إلى أن أتت أزمة كورونا وما نتج عنها من إغلاقات وأضرار اقتصادية  سددت ضربة جديدة للمغتربين اليمنيين. قرابة نصف السكان في اليمن يعتمدون على تحويلات المغتربين المالية –تأتي من السعودية 61 % منها-  خاصة مع انقطاع رواتب الموظفين، كما أن الحوالات  توفر العملة الصعبة اللازمة لاستيراد السلع. تردد الأمم المتحدة والمنظمات الدولية العاملة في اليمن القول إن “البلاد على وشك المجاعة” منذ عدة سنوات، وتستخدم هذه العبارة لتحفيز المانحين على التبرع بالأموال لهذه المنظمات، وتكرر وراءها المنظمات اليمنية نفس الحديث دون أن تبذل أدنى الجهود في تعريف المجاعة المتوقعة وأسبابها. من ضمن أنواع المجاعات المختلفة، المجاعة الممكنة في اليمن ستكون بسبب عدم توافر العملة الصعبة التي تغطي الواردات في ظل عجز الحكومة عن تصدير النفط، وما يحمي اليمن من هذه المجاعة التي يحذر منها العالم هو تحويلات المغتربين[10]. بعد هذه اللمحة البسيطة عن خطورة دور العمالة اليمنية في السعودية وتأثيرها الحاسم على حياة الشعب اليمني يُسأل السؤال: أين مكان هذه القضية في حملات الضغط على السعودية؟ لا مكان لها أصلًا؛ لم تثرها المنظمات الحقوقيّة الغربيّة وتحولها إلى قضية، ولهذا لم تعرها المنظمات اليمنيّة اهتمامًا ولم تنظّم حملة واحدة لحشد العالم والضغط على السعودية في قضية يمكن تحقيق نجاح فيها وهي استثناء اليمنيين من هذه الإجراءات الاقتصادية العنيفة التي تُكدّح عمالة متعبة تكدح للعيش بشرف، وتهدد قدرة مجتمع بأسره على مقاومة الانهيار والمجاعة.

     معلومات عن الوضع الراهن لا يُبحث عنها ولا يبذل جهد في تحصيلها أو فحص الموجود منها، واستقالة من تحديد جوانب القضيّة اليمنيّة ابتداءً من البلاغة وتعريفات الكلمات، مرورًا بتحديد أولويات اليمن بناءًا على المخاطر والكوارث والفرص، وانتهاءً بصياغة تصورات أصيلة للحل في اليمن تحترم السياق التاريخي للحرب، وترك كل تلك المهام إلى القوى والهيئات والمنظمات الدوليّة_ هذا المُركّب الفريد ينتج “يمنًا” ليس إلا شبحًا من اليمن الواقعي، وهذه اليمن الشبحيّة هي بالضبط من يتحدث عنها كثير من المنظمات غير الحكومية ويخاطب سكانها اليمنيين الأشباح. هذا الانفصال عن الواقع وتوازناته وسياقه التاريخي ومفرداته الأولية ومعاييره وبديهياته، يساهم في إفراز ظواهر أخرى مثل مناقشة نجوم المنظمات غير الحكومية مواضيع هامشية غريبة يقدمونها بوصفها أولويّات في مجتمع يعيش حربًا قاسية تهدد شروط وجوده.

رابعًا: حيازة قوة الاقتراح

حاول المقال مقاربة أزمة قطاع من منظمات المجتمع المدني في اليمن من بعض الزوايا، ولاقتراح مخرج منها يجب استحضار أمرين:

الأول أن علينا حين ننظر إلى “أصوات السلام” أن نقيّمها في إطار إمكاناتها التي يحددها تكوينها. المنظمات غير الحكومية الممولة تعامل شعبيًا كأنها هيئات نضاليّة، وهي ليست كذلك، على الأقل في السياق اليمني الراهن. وهكذا تُعلق عليها مسؤولية الفشل والمآسي بما يفوق طاقتها تجنبًا لمحاسبة التشكيلات والأطراف المدنية التي لعب فشلها في الانخراط في الصراع دورًا أكبر فيما تعيشه اليمن اليوم، علاوة على المسؤولية الأولى التي تقع على الرئيس هادي والجماعة السياسية وشبكات المصالح المرتبطة به. هذا التصور المبالغ به والشائع شعبيًا ناتجُ خواء المجال العام من المؤسسات المدنية الكبرى، وناتجٌ أيضًا عن تقديم بعض قيادات تلك المنظمات نفسه مناضلًا راسمًا صورة كاريكاتورية ظالمة عن نفسه قبل أن يظلمه الآخرون. إذا كنا نريد تحقيق تقدّم في النقاش العمومي علينا تجاوز حالة سيولة المعايير وامّحاء الحدود التي يعيشها الحيز العام في اليمن ونرى نتائجها في حملات مواقع التواصل الاجتماعي وتجهيل الناس واستخدامهم في التعبئة والتحشيد ضد أطراف وليس لأجل قضايا؛ حيث يمكن أن تُنسب لأي طرف أو هيئة وأحيانًا أي شخصية عامة بطولات خارقة أو أن تُحمل مسؤوليّة كل الجرائم والدمار بكل سهولة. لكي نتجاوز هذه الحالة علينا أن نتحلى بتواضع كافٍ يُلزمنا حدود طاقتنا ونطاق عملنا الذي يفرضه التكوين والسياق (أفرادًا أو مؤسسات)، وبهذا يمكن لكل طرف فاعل في الشأن العام تحقيق خطوات جيدة، وتحمل مسؤوليات واضحة ومحددة يُحاسب ويُساءل بناءًا عليها.

الثاني أن ما سُمّي في المقال أزمة أصوات السلام  ناتج رؤى وسياق معقد ومقاربات معينة للواقع في المقام الأول، وليس ناتج “شخصيات شريرة”، وقد حاول المقال إثبات الصفة السياقيّة للأزمة بإظهار وجود بعض ملامحها عند أطراف يمنية أخرى مختلفة التكوين والوظيفة. إذا أردنا أن نصل إلى حلول لأزماتنا من الأفضل مقاربتها أولًا من منظار السياق ونقاش الخيال السياسي؛ بهذا تظهر إمكانيّة الحل والتجاوز، وبدونه نصبح في صراعات الظلام والنور الأزلية التي تقفل باب التغيير وترى التفكير والجدال والبحث عن تصورات مشتركة مضيعة للوقت، ولكن ينجح قادتها في تحويل قطاع من الناس إلى غوغاء.

العمل الفني لسعد الشهابي

بناءً على تحليل المقال، يمكن تجاوز الوضع السيء لأداء المنظمات اليمنية المشتغلة بالسلام بالانتماء إلى الواقع والتورط في التاريخ، وهذا ممكن إذا قررت “أصوات السلام” السير في طريق حيازة قوة اقتراحيّة عالية.

السلام مشروع سياسي، ولا يمكن أن تخوض فيه بدون انحياز سياسي لا يخجل من التعبير عن نفسه، ومن المفيد هنا التمييز بين الانحياز السياسي والالتزام الحزبي. إذا اتفقنا أن المنظمات غير الحكومية المشتغلة بموضوع السلام ليست هيئات نضاليّة؛ أي لا تحمل صفة تمثيلية ولا تعُبئ الطاقات الشعبية لمقاومة “السلطة” أو لتطبيق مشروع سياسي، لا يمكن أخذ حديثها وعملها بجديّة إلا حين يحوي طروحات سياسية واضحة محددة الاتجاه؛ لا يمكن أن نأخذ حديث تلك المنظمات على محمل الجد وهي لم تحدد بعدُ من تخاطب بالضبط[11]. منذ اندلاع الحرب دارت نقاشات مهمة حول موضوع الحياد والانحياز، وعلاقة كلا الأمرين بالالتزام الوطني، ولكن علاوة على هذا الجانب، الحياد التام في الصراع والهرب من مجابهة تناقضات الواقع عبر الاكتفاء بتأييد القيم العامة يحرم طرح صاحبه من الراهنيّة؛ فلا أحد يحتاج إلى هذا التأييد واللهج بالقيم الخيّرة لأن كل البشر يؤيدها لفظيًا بمن فيهم أفظع القتلة في العالم ومغتصبي المعتقلين في أقبية الأمن. ومن هنا تأتي مشكلة ثانية يجب تجاوزها وهي بلاء “المطالبات” الذي أصاب المجال العام اليمني بصورة عامة وليس المنظمات غير الحكومية فقط؛ حيث يُختزل العمل السياسي والإنساني في “المطالبة” بأشياء، في حين أن ما نحتاج إليه هو إعطاء اقتراحات متماسكة عن كيفية تحقيقها، خاصة وأن المنظمات غير الحكومية ليست جهات تمثيلية أو مؤسسات مدنية قُطريّة (أحزاب، نقابات،..إلخ) تنوب عن قطاعات شعبية وبالتالي تكتسب مطالباتها زخم تمثيل قواعد اجتماعيّة. مؤخرًا بسبب سياسات مكتب المبعوث الأممي والإدارة الإقليمية لهيئات الأمم المتحدة حصلت إهانة لمبدأ التمثيل والمواطنة أدت إلى وضع عراقيل في طريق النضال التحرري عوض أن تساعده. مثلًا يصرّ مكتب المبعوث الأممي على مشاركة الشباب والنساء في “صنع السلام”، وتكون هذه المشاركة ممكنة عبر خلق المكتب لمنظمات ومبادرات ثم إعادة دمجها باعتبارها “تمثّل” الشباب والنساء. في حقيقة الأمر هذه المنظمات غير الحكومية إن كانت تمثل شيئًا فهي تمثّل رؤية المبعوث الأممي للشأن اليمني وليس الشباب اليمني أو النساء اليمنيات. التمثيل الذي يمكن الركون إليه يجب أن يمتلك شرعيّة، والشرعية لها مصدران: المسار الديمقراطي، ومن هنا تأخذ الأحزاب والنقابات والتعاونيات الفلاحيّة والاتحادات الطلابية شرعيتها، أو الشرعية الشعبية نتيجة النضال المتصل وتكوين مؤسسات يمكن للأفراد الانتماء لها طوعيًا على امتداد البلاد وتمثل هيئة اندماج اجتماعي، وهكذا تكتسب حركات التحرر والهيئات النضالية على سبيل المثال شرعية التمثيل. ولكن ليس مفهومًا كيف لأفراد لا يتجاوزون العشرات بدون شرعية ديمقراطية أو شعبية، وانتظموا في مؤسسات تكوّنت على أساس رؤى طرف خارجي وبدعمه المباشر_ أن يمثّلوا شريحة عمرية أو نوعًا اجتماعيًا. في هذه الحالات تحديدًا تظهر نتائج معاداة التسييس والتماهي مع رؤية “استكهولم” في شكل أحاديث ورؤى ومطالبات لا يمكن أن تصدر إلا عن انفصال مروّع عن الواقع. مثلًا ترى إحدى المنظمات المعنية بمشاركة الشباب في السلام بأن الشباب هم قوام القوة المقاتلة لـ “أطراف النزاع”، ولهذا تطالب “الحكومة وأطراف النزاع” بأن يفسحوا مكانًا للشباب في مشاورات السلام بنسبة الخمس “على الأقل“. هذه المطالبة الخالية من أي مبدأ أو بديهيات اجتماعية وسياسية إلا رؤية “التعايش بين المليشيات والحكومة” وادعاء حق “الشباب” في المشاركة السياسية_ يجعل موضوع “مشاركة الشباب في صنع السلام” بلا قيمة؛ فالشباب شريحة اجتماعية، وليسوا قيمة أخلاقيّة حتى يصبح وجودهم القيادي المجرد من أي رأي ورؤية وموقف سياسي أمرًا يجب الحرص عليه أو حتى حقًا يجب صونه. في مثال آخر، كثير من المنظمات غير الحكومية والشخصيات العامة العاملة في نطاقها أدان خلو الحكومة اليمنية الأخيرة من النساء ومخالفة الحكومة بذلك مخرجات الحوار الوطني، مع العلم أن بعض هذه الشخصيات يقول علنًا إنه مع انفصال البلاد؛ أي لا يعترف بالمحددات الأولية لوجود اليمن ولا بشكلها السياسي ولا يرى اليمنيين شعبًا واحدًا أصلًا، ولا يعترف بشرعية الحكومة اليمنية التي يطالبها بالكوتا والمساواة!

تقوم القوة الاقتراحيّة على عمودي الانتماء للواقع: الانحياز السياسي والمعرفة. لا يمكن لأصوات السلام تجاوز أزمتها بدون معرفة حقيقية بالواقع اليمني، وربما المساهمة لاحقًا في إنتاجها. وأولى المهام بهذا الخصوص هي النظر بعين نقديّة لمعرفة المنظمات الدوليّة حول اليمن، ولا أقول هنا الاستغناء عنها؛ مكتبة دراسات البنك الدولي أو تقارير هيئات الأمم المتحدة مثلًا لا غنى عنها في بناء تصورات متماسكة عن تاريخ التنمية والاقتصاد في اليمن، ولكن ما يجب التخلص منه هو الاعتماديّة الكاملة على بيانات المنظمات الدولية وتقاريرها خصوصًا في مرحلة الحرب الراهنة. يمكن لأصوات السلام بما لديها من علاقات دولية وإمكانيات ماديّة تقديم أجندات بحثية وإحصائية تخص الواقع اليمني وتنطلق منه وليس من اهتمامات الآخرين، وهنا تظهر الاعتمادية المتبادلة بين رافعتي القوة الاقتراحيّة؛ لأن طرح مواضيع بحثية وإجراء مسوح وإحصاءات معينة يتحدد بناءً على انحياز سياسي وتصور ذاتي لمشاريع سياسية يُرشّدان عملية تحصيل المعلومات والبحث والتحليل لفحص سلامة المشاريع اولًا، وتحسينها ثانيًا. وأخيرًا، القدرة على الاقتراح تستلزم حدًا أدنى من الاتساق والمنطق؛ لا يمكن مثلًا التعامل باحترام وجديّة مع مقترحات منظمة غير حكومية تعلن أن مشاركة النساء السياسية أو التوزيع العادل للثروة شاغلها الرئيسي وتروّج في ذات الوقت لخلق دولة عاجزة عن احتكار العنف أو ضمان مبدأ المواطنة؛ أي حين تقترح شيئًا وتعمل على هدم أساساته البديهية في نفس الوقت!

 لا تعد المنظمات اليمنية غير الحكومية الممولة في اليمن قوّة كبيرة سياسيًا أو اجتماعيًا، ومن يتحمل أثقل المسؤوليات عن الوضع الذي وصلت إليه البلاد أطرافٌ أخرى. ولكن هذه المنظمات تمتلك إمكانات تواصل عالية مع الخارج مما يعطي صوتها (وليس طرحها) قوة خارجيًا، ومن المؤسف أن نرى هذه الإمكانيات تُهدر في محاولات خلاص فردي في أسوأ أشكاله (حين يلبس لبوس النضال)، وتُحوَّل كوادرها التي يمكن لها أن تقدم الكثير للنقاش العمومي ومخاطبة الرأي العام في الخارج بشأن اليمن إلى مجرّد فِرَق تشجيع وظيفتها الوحيدة دعم تصورات الآخرين التي يريدون تجريبها على اليمنيين.

من الأمور الباعثة على الأمل أن هذه الأزمة ليست مستحكمة؛ يمكن تجاوزها بسهولة نسبية كما حاول المقال ان يوضّح؛ فهو لا يتطلب تغييرات في التكوين والوظيفة بل تعديلات في التموضع وطريقة التفكير، وذلك سيكلّف أصحابها بعض الخسائر ولكنها لا تصل إلى مستوى التضحيات الخطيرة، والعائد على المجال العام سيكون جيدًا، كما أنه يساهم في إعطاء تلك المنظمات ديمومة في الحيز العام؛ إن ارتباطها العضوي بالدعم الخارجي حتى على مستوى المواقف وإسماع “الخارج” ما يريد سماعه يُقصّر في عمرها؛ سيأتي يوم تنتهي فيه هذه الحرب وتجد هذه الأصوات نفسها وقد انتهت وظيفتها، و”السخاء” الدولي في تمويلها سيتلاشى، وهكذا ستجد هذه المنظمات نفسها في مجتمع لم تعد تتعرّف عليه لأن في خيالها مجتمعًا يمنيًا آخر ويمنًا أخرى.. في واقع انفصلت عنه مبكرًا، ولن تجد فيه مكانًا إلا على الهامش في أحسن الأحوال.


[1] ميشا سليموڤيتش، الدرويش والموت، ترجمة: حسين عبد اللطيف وأحمد سمايلوڤيتش (الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971) ص 150.

[2] كان ثمة حملات تهاجم ولد الشيخ بضراوة، وأغلب قادة تلك الحملات التي جيّشت الناس هو نفسه من يهاجم غريفيث اليوم على سلوكه ويطالبه بما كان يفعله عمليًا ولد الشيخ! هذه الثقافة السياسية الهستيرية تمنع أصحابها من الاستفادة والتفاهم حتى مع من يتفقون معهم.

[3] فُسرت هذه التفاهمات على أنها محاولة لإنهاء حصار الحوثيين لتعز وقصف أحيائها السكنيّة، ولكن في نص اتفاقية استكهولم، الموجود في موقع مكتب المبعوث الأممي، كان تفاهم تعز عبارة عن نصف صفحة تدعو لتشكيل لجنة مشتركة بين الحوثيين والحكومة. وهذه اللجنة بدون صلاحيات أو أهداف أو إطار.. لا شيء مطلقًا. وفي كلام آخر، تفاهمات تعز كانت تفاهمًا على ضرورة التفاهم! وهذا يعطي إشارة إلى مكان قضية تعز الهامشي في تفكير ونشاط المبعوث الأممي.

[4] بعض الضحايا المدنيين في الحديدة يسقط، إلى اليوم، بسبب انفجار الألغام التي زرعها الحوثيون، وفي اتفاق استكهولم لم يُطالب أحد الحوثيين بكشف خرائط الألغام حمايةً للمدنيين، وهذا ليس صدفة؛ فهو أحد تجليات تمييز مقاربة المبعوث الأممي بين وقف إطلاق النار وبين وقف قتل المدنيين.

[5] بعيدًا عن لغته غير المهنيّة، يرصد هذا التقرير بالتفصيل بعض الخروقات لاتفاق استكهولم وتعامل مكتب المبعوث معها:

https://almahrahonline.net/news2416.html

[6] لأخذ صورة عامة عن التوغل الإيراني في الاقتصاد العراقي أنظر:

 https://www.sasapost.com/iran-controls-iraqi-markets/

[7] لا يستخدم المسؤول الغربي هذه المفردات في بلاده لأن الصراعات الإيديولوجية فيها واضحة تتجسد في تشكيلات تنظيمية وقيادات ومسنودة بقواعد اجتماعية كبيرة، وإذا استخدم منطق “الحياد” سينهي مسيرته السياسيّة؛ لا أحد يحترم أو يثق بسياسي أو مثقف يرى نفسه أكبر وأطهر من الصراعات الاجتماعيّة. في الأزمة التي لحقت إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة على سبيل المثال رأينا صراعًا حتى العظم بين تيار ترمب وتيار الحزب الديمقراطي؛ لم نسمع أحدًا مهمًا هناك يقول لأبناء شعبه “هذه معركة لا علاقة لكم بها” أو يتحدث عن الفريقين بصفتهما “طرفي النزاع”.

[8] أنظر تعليق الباحث مصطفى ناجي على هذه الأرقام مزوّدًا بالجداول:  shorturl.at/qzO1

[9] على سبيل المثال، أنظر تحقيق علي المعبقي:

    https://almushahid.net/69472/

وتحقيق الأسوشيتد برس (مترجمًا على موقع المصدر أون لاين):

  https://almasdaronline.com/articles/170396

[10] بعد سنوات من ترديد هيئات الأمم المتحدة أن اليمن على شفير مجاعة، بدأ حديث المنظمات الدولية الآن عن أن المجاعة المتوقعة مجاعة “دخل” وليس مجاعة ناتجة عن عدم وفرة الطعام. أنظر: shorturl.at/rQRX5

 وهذا الأمر هو ما كان الخبراء الاقتصاديون اليمنيون يحاولون شرحه للمنظمات الدولية واقترحوا مبكرًا وسائل صرف للمساعدات المالية الدولية من هذه الزاوية، أي عبر تغطية بند رواتب الموظفين والمساهمة في استقرار العملة المحلية عوض التركيز على توزيع السلال الغذائية.

[11] هناك حالة تيه تعيشها هذه المنظمات، فهي تستورد قاموس واقتراحات الخارج، وتوجهها للداخل، ولكنها تفعل ذلك، أي تزعم مخاطبة اليمنيين، باللغة الإنجليزية في مواقع التواصل الاجتماعي!  هذا التناقض يُفهم بأن ما تقوم به هذه المنظمات هو إثبات حديثها إلى اليمنيين أمام الجهات الخارجية وأنها تخاطبهم بما هو متوقع منها، وليس مخاطبة اليمنيين، واقعيين كانوا أم شبحيين.

اظهر المزيد

أيمن نبيل

كاتب يمني مقيم في ألمانيا. يكتب في العديد من الصحف والمجلات اليمنية والعربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى