رأي

عن الغربة: رحلة في الخوف والذنب والحنين

This post is also available in: English (الإنجليزية)

ما الغربة؟ هوية؟ حنين؟ ذكريات؟ مخاوف؟ هل أنتفي الغربة فعلا؟ ما هو الانتماء؟ إن كنت في وطنك، هل يعني هذا أنك تنتمي فطريا بوعي وبلا وعي لأن هذا ليس اختياريا بالأساس؟

في التجربة الذاتية، تدفقت هذه الأسئلة مرارا خلال ثلاث سنوات غربة. كنت أنا السائلة والمجيبة في أحيان كثيرة. وخلال السنوات الثلاث تغيرت قناعاتي وإجاباتي عن كثير من الأسئلة وأظن أنها ستستمر في التغير؛ إذ أن هذه هي سمة الكون. وهذا يرجع ربما إلى أنني أيضا أغير الإجابات بناء على الوضع الذاتي المتغير أولا وقبل أي شيء. غير أنني رغم تعقد الأسئلة وتباين الاجابات ظللت أحتفظ بفكرة عامة تظلل كل هذه التساؤلات والاجابات؛ وهي: أن وطن الإنسان الأول هو روحه وهو ما يمثل فكرة الانتماء، أما الهوية القصوى فلا ينبغي أن تكون إلا إنسانية؛ أي فوق الحدود.

العمل الفني بواسطة شذى التوي

والحديث عن الغربة يتبعه لا محالة حديث عن الانتماء؛ فلن يكون الإنسان مغتربا إن كان ينتمي لكل الأرض، ولكل الناس، ولكل الأطعمة واللهجات والنكات. لن يشعر الإنسان بالغربة إن كانت الشوارع لا تصنع فرقاً لديه، ولا الروتين اليومي، ولا الفصول. لن يكون مغتربا إن كانت مقرات الشرطة لا تخيفه، ولا يحمل جواز سفره أينما ذهب وارتحل. فما هو الوطن الذي لا تكون فيه مغترباً إلا كل هذه الأشياء؟

في تجربتي الشخصية كانت هناك ثلاثة مراحل، بدأت بالقاسية وانتهت – أو لم تنته بعد- بمحاولة التصالح مع الواقع. في المرحلة الأولى، أتذكر بوضوح الرعب الهائل الذي كنت أعيشه و أنا في المغرب، كانت الحرب في اليمن في أيامها الأولى. كنت أظل أردد أنه من الواقعي والعادي واليومي- وإن كان من المفجع القاسي- أن يفقد الإنسان أعزاءه، أشياءه؛ أن يفقد أعضاءه. لكن من غير المعقول ولا المقبول أن يفقد الإنسان وطنه؛ ألايكون قادرا على إيجاده ضمن خارطة المسافرين، أن يلغى من شاشات المطارات، بدا ذلك فوق طاقتي على الاستيعاب أو التصديق. أن يُمنع إنسان من أن يعود لبلده، لحياته وأحبائه وأشيائه.

في تلك الفترة بدا لي أن كل حجر أصم في الجبال الغبراء من قريتي أغلى عندي وأحب إلي من كل مبهجة في الحياة. وحاولت مستميتة أن أحتفظ بشكل الشوارع في ذهني، كنت أمشي في خيالي عابرة شارع هائل منحدرة نحو الدائري وأنا أبكي من فرط الغيظ لأنني لا أستطيع تذكر ما إذا كانت هناك شجرة على جانبي الطريق أم لا، ما إذا كان عدد البقالات صحيحاً. أغمض عيني لأتذكر أسماء المدن التي نعبرها في الباص في الطريق من صنعاء إلى عدن والعكس. كان ذلك أقل شيء يمكنني التشبث به. وفي كل مرة يخبرني فيها أحدهم أن لا الشوارع ظلت شوارعنا ولا جدرانها لنا، أعاود الكرة لأبقيها في ذاكرتي كما كانت، مرعوبة من أن تختفي فعلياً، أحملها معي في شوارع الدار البيضاء، مخبئة ضعفي ووهني، خائفة من رجال الأمن والمتحرشين والقتلة والنشالين وكل الناس.

هنا والآن أنا بدون وطن بدون حائط، إن قتلت هنا أو اختفيت فتلك النهاية كاللاشيء تماما.  الطريقة التي عاملنا بها رجال أمن المطار وبوليس الأجانب أشعرتني بذلك. ذلك الإذلال لأناس يعرف مُذلهم ألا ضير من إذلالهم. يمر الآخرون بجوازاتهم الزرقاء والحمراء وأسماء بلدانهم الظاهرة على شاشات الوصول والمغادرة محميين من اذلال وهمجية رجال الأمن. ربما آمنت قبلا أن كل بلاد الأرض قريتي، لكني وقتها لم أكن قد التقيت برجال الأمن المغربي وجوازي لم يكن عالقا في المطارات كسلعة منتهية الصلاحية. ارتفع مؤشر الشعور بالغربة لدي حتى صار هو الشعور الوحيد. ولم يبق للانتماء غير تعريف واحد: بلدي وإن جارت علي عزيزة! كانت الغربة في تلك المرحلة هي: الخوف.

العمل الفني بواسطة شذى التوي

في المرحلة الثانية، وهي مرحلة وصولي إلى التشيك، لم يعد الخوف هو من يحدد الانتماء، أو يعرف الغربة، كنت في بلد لا أخاف فيها، وإن خفت فإن أسوأ خيالاتي لن يصل للمرحلة الأولى من الرعب التي عشتها في المغرب وللأسباب التي ذكرتها.  في هذه المرحلة كان الشعور بالذنب هو ما يطبع لون حياتي وما يطفو على روحي في كل لحظة حياة حقيقية أعيشها؛ ولا يعيشها أهل بلدي. أردد في سري: ” أنا آسفة”، حين أستخدم الماء الساخن. أنا آسفة حين أذهب للتسوق، وحين أعود في الليل آمنة، وحين أحظى بوجبة رائعة، وحين أتسلم راتبي، وحين أتلذذ بجمال الدنيا في صيف لا يضاهي جماله صيف في شرق أوربا.

 أصرف ثلثي يومي على الفيسبوك ونشرات الأخبار. أجلد ذاتي البعيدة عن معاناة كل الذين أحبهم، وأشاهد جمال العالم من حولي وأؤكد أن ليس
لدي الحق في بعض منه، فلا البلد بلدي ولا الأيام لي، أخبئ عار البطاقة الشخصية كفضيحة وعليها تعريف: “الحماية الإضافية” التعبير الألطف والأكثر غموضاً لـ”لاجئة”، وكفارة من المعركة، أسرد التبريرات لنفسي ولأي سائل عن سبب وجودي هنا، تضاعفت “يمنيتي” ووصلت حدودها القصوى. عشقت كل ما يتعلق بهذا البلد، أعدت قراءة تاريخه وحفظ صور مدنه، اندمجت في أغانيه وأرّخت لنفسي فصوله وساعاته، وأقررت بأني لا أحب أحدا مثلما أحب ناسه، أختنق بالعبرة من مرأى علمه، وأنشج من مآسي قصصه، تقوقعت في شعوري بالعار والذنب، وكررت لنفسي كل لحظة أني غريبة هنا، وكل هذا مؤقت، وأن ما سأفعله الآن وما يليه هو فقط في انتظار العودة. تتغير الفصول، وتتغير النبرة في أحاديثي مع أمي وأهلي، أقول لهم أنني أنتمي لكل الأرض. لكن كانت الأرض – في أعماقي- هي الأهل والأصدقاء الذين أظل أهرب من سيناريوهات فقدهم؛ الأهل والأصدقاء الذين أظل أقارن أي ألم أعيشه بآلامهم ومعاناتهم هناك. كانت الغربة في تلك المرحلة هي: الشعور بالذنب.

في المرحلة الثالثة، خرجت من قوقعتي إلى الحياة. يوماً بعد آخر كنت أتصالح مع الواقع. لم يعد هناك عار أحمله متجولة. ولا يعنيني إن كانت الأرض لي أم علي. ولا يعنيني إن أحبني الناس أم لم يفعلوا. كنت منشغلة بأيامي المكتظة. وجدت أن الشعور بالغربة لم يعد موجودا في كل فعل أفعله أو لحظة أمر بها أو حلم أحلمه. غمرته مشاعر أخرى من حب الحياة والاكتشاف والرضى. وجدتني أستمتع بالحياة: فماذا يعني أن أكون مغتربة؟ أيعني هذا بالضرورة أن أكون حزينة وأن أربي الألم حتى يلتهمني؟ أن أحيا بذنب لم أرتكبه ولم يكن ضمن خياراتي في الأساس؟

 خلعت بشكل حاسم رداء الرثاء. وأقررت بأن مشيئة أكبر من خيالاتي هي من يقرر ما يحدث في بلدي. وإلى أن يتقرر غير هذا فإني هنا والآن، شابة وقادرة تحيط بي الإمكانيات والخيارات. ها قد أُزيح الشعور بالعار، لكن بقي الذنب يأتي ويذهب لكن لن أودعه”. ينام الحنين في حضني، يسوّر قلبي بسياجه الضارب عميقا في ذاكرتي، يستريح برأسه على كتفي في اللحظات التي تفاجئني بروائح من الأيام التي ولت. أزمنة وأمكنة كأنها الماضي بالضبط، القيلولة للاسترخاء لكنني فيها هنا والآن أحلم أسمع أمي تنادي إخوتي؛ أتذوق طعم خبز الطاوة حين أمر بجانب المخابز، وأظل أبحث عن أي الدول تتشارك معنا في “عصد” الحلاوة. نحتفل هنا معا بـ “سلتة” في ليلة الكريسماس. في المحادثات التعارفية انشغل بالحديث عن البلد؛ أعني بلدي الجميل الحزين. أحتفظ بصور كل من غادرتهم كما هم حين غادرت، أمنعهم من الكبر والشيخوخة. أرتدي “الدرع” في العصريات. وفي الصيف أمشي تحت أشجار الياسمين كالسكرانة مسترجعة رائحة الفل اللصيقة بكل فرحة وأخبئه ما استطعت في شعري وروحي.. هنا في روحي أفضل.. إن الغربة في مرحلتي الحالية هي: الحنين.

 

.ريم مجاهد، كاتبة يمنية تعيش في التشيك.لها عدة مقالات منشورة في عدة مطبوعات يمنية وعربية

اظهر المزيد

Reem Mojahed

a Yemeni writer, who lives in Czech Republic. She has published multiple articles in both Arab and Yemeni publications.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى