ثقافةرأي

جذورنا

This post is also available in: English (الإنجليزية)

عمل فني لأشواق عبدالجليل

كنّا أنا وبعض الأصدقاء نشاهد مباراة الجزائر ضد ساحل العاج -ضمن بطولة الأمم الأفريقية-في زاوية مقهى عربي في العاصمة البلجيكية بروكسل، فور انتهاء المباراة بفوز الجزائر؛ امتلأتْ الشوارع بالمحتفين العرب يحملون الأعلام ويطلقون الزمارات حتى يتراءى لكَ لوهلة أنكَ في قلب وهران ولستَ في بلاد الشمال.. كان المحتفون من الشباب الصغار الذين أتوقع أن معظمهم قد ولد في بيئة غير بيئة أهله وغُرس في طين المهجر منذ البداية. أخذني المشهد إلى ألمانيا حيث أعيش وتعيش فسيفساء من هجينٍ بشري تعود بجذورها إلى مشارق الأرض ومغاربها. يتحدث الإعلام في ألمانيا عن فكرة الاندماج ويعتقد البعض أنك بمجرد أن تطأ قدماكَ “أرض الآخرين” يجب أن تدخل في سلسلة طويلة من “التدجين” حتى تتحول عن حالة الضيف لترقى إلى مقام المُضيف. هناك فوقية تمارسها المجتمعات والشعوب الأصلية على كل قادم من خلال فكرة الاستضافة هذه بنطاقها النخبوي والشعبوي.

تخيل أنكَ قد وصلتَ لبيت أحدهم وقررتَ الإقامة في ما يمكن اعتبارها ملكية غيركَ الخاصة، ستحاول بشتى الطرق أن تبرهن على أنك “واحد من أهل البيت”، وأن ما يختاره لكَ مُستضيفك على العشاء هو طبقكَ المفضل، وأن فيلم السهرة الذي سيضحكون عليه هو أكثر الأفلام المسلية التي قد تشاهدها في حياتكَ، وأن الساعة التاسعة موعد إطفاء أنوار المنزل هو موعد النوم المناسب لكل البشرية، ستجتهد لتثبت أنّ استضافتكَ كانت فكرة سديدة لا تريد من أحدهم أن يستشعر ثقلها، لكنكَ ستظل طوال الوقت تستشعر فوقية مستضيفكَ عليكَ، الفوقية التي قد ترمي بكَ خارجًا لأسباب قد لا تتعلق بكَ شخصيًا، بل ربما بعدم قدرته على استضافتكَ، أو بعدم رغبته مشاركتكَ ما يخصه.. إنها فكرة خطيرة وتصبح حادّة ومُحبطة وهي تتحول من إطارها الخاص للعام، نشاهد الناس وهم يرمقوننا شزرًا معتبريننا ضيوفًا ثقالا طالتْ إقامتهم، يتوجب عليكَ لتخفّفَ من وطأة هذه النظرة أن تثبتَ أنكَ تدفع جزءًا من الإيجار، وأنكَ ترتب فراشك بنفسكَ كل صباح، وأنك تتطوع في أعمال البستنة، وتجلب البقالة، وتطعم فمكَ كلما شعرت بالجوع. حتى في أسمى حالاتها؛ تبقى حالة الضَيف والمُستضيف هي القانون الخفي الذي سيحكم علاقتكَ بمجتمعكَ البديل مهما انغرستَ فيه، حتى وإن امتلكتَ الإثبات على مواطنتكَ حبرًا على ورق. تُعامل في غربتكَ بواقع من سلطة الأرض، الجينات، والثقافة وليس بميزان الكفاءة أو المواطنة. تبدو هذه فكرةً فطريةً لا علاقة لها بمدى تحضر المجتمعات ولا صلة لها حتى بالقوانين.

هذه الفكرة تجعل حتى من يدافعون عن ضيوف بلدهم يستشعرون بشكل ما أنّهم القوة التي تدافع عن الضعفاء وليسوا في الحقيقة من يبحث بالمطلق عن مبدأ المساواة في الإنسانية. كنّا أنا وصديق من بلد عربي نلتقي للمرة الأولى بسيدة تعمل في مجال إدماج المهاجرين في المجتمع الألماني، كانتْ شابة في أواخر العشرينات، ممتلئة بالزهو إذ تدافع عن حق اللجوء وتنتمي لواحد من أحزاب اليسار التي تتبنى خطابًا إنسانيًا تجاه أزمة اللجوء في أوروبا، كانت تشعر بالحظوة وهي ترعى حيواناتها الأليفة الذين وفرتْ لهم بلدها فرصة الولوج إلى “المدينة الفاضلة”. كنّا أنا وصديقي لا زلنا في مرحلة دنيا من دراسة اللغة الألمانية، اقترحتْ هي علينا أن نتحدث بالإنجليزية حتى نسهّل التواصل، انطلقنا في الحديث فشعرتْ بصدمة أنّ مستواها أقل بكثير من مستوانا؛ بعكس ما توقعتْ ربما، وأنّنا كنا على درجة عالية من الثقافة العامة ونستطيع الحديث حتى في أكثر المواضيع خصوصية ومواكبة. ثم قررتْ فجأة بقرار انفرادي أن تتحول لغة الحديث إلى الألمانية وقضتْ أننا بحاجة لجرعة اندماج عاجلة تبدأ من لغة تعمدتْ أن تجعلها معقدةً قدر المستطاع حتى تستعيد حالة التفوق التي ما كانتْ لتحاول مساعدتنا دونها. كنا قد لمسنا احتقانها الذي وصل لحظة الانفجار عندما رمى صديقي بتعليق عابر عن انتشار ظاهرة تدخين الحشيش في ألمانيا، فبدل أن تناقش الحالة انبجستْ في وجوهنا غلّا وطيشًا، قالتْ: “أنتم المهاجرون روائحكم سيئة بدون تدخين فلستم بحاجة إلى إضافة المزيد من السوء عليها بتدخين الحشيش”. كان هذا واحدًا من أكثر التعليقات سذاجة وتنمرًا التي سمعتها في حياتي كلها.. بمرور الوقت بتُّ على قناعة أكبر بأن أحدنا لابد أن يصطدم خلال محاولته الاندماج في مجتمعه المُضِيف مرّة، اثنتين، أو أكثر بهكذا أشخاص، وسيبدو الوضع متصاعدًا كلما حاولتَ التغلغل صعودًا نحو قمة هرم المواطنة.

كنتُ البارحة فقط أقرأ مجموعة تغريدات للرئيس الأميركي ترامب يهاجم فيها مجموعة نائباتٍ من الحزب الديمقراطي ويطلب منهن العودة إلى “بلدانهن الأصلية”. يكاد أحدنا يصاب بالدوار وهو يرى فكرة الضيف والمستضيف تتجلى في واحدة من أكبر المجتمعات الخليط على ظهر الكوكب، وتتساءل عمّا يجب لأحدنا أن يفعله حتى يعتبره مجتمعٌ غير أصيل مواطنًا أصليًا؟! إذا لم تشفع لمواطناتٍ أمريكياتٍ من أصول أخرى امتيازات المواطنة التي تخطتها إلى استحقاقات تمثيل مواطنيهم في البرلمان فما الذي يمكن أن يشفع لكَ أنتَ أكثر من هذا. الإجابة: لا شيء!

هذا اللا شيء عبّر عنه مسعود أوزيل، ذو الأصول التركية، عندما كتب رسالة اعتزاله اللعب الدولي باسم ألمانيا وهو الألماني جنسية ومولدًا، تلك الرسالة التي ملأها بالحسرة والألم، جاءتْ بسبب ما عبّر عنه بقوله “عندما نفوز نحن ألمان.. وعندما نخسر نحن مهاجرون”، لم يُظهِر كثيرٌ من الألمان امتنانهم لأوزيل على كل البطولات التي ساعد في حصدها، والذي تُوّج بفضلها 5 مرات كأفضل لاعب ألماني، ولكنهم حمّلوه نتيجة الأداء السيء لألمانيا في كأس العالم 2018، لمجرد صورة التقطها مع أردوغان الرئيس الذي تعود أصوله إلى بلده.. تساءل مسعود طوال بيانه ” لماذا لاتعتبرونني ألمانياً؟ لماذا تعاملونني كغريب؟ هل هناك معايير خاصة ومحددة كي أكون ألمانيًا وأنا غير مطابق لها؟

عمل فني لأشواق عبدالجليل

سعيًا نحو هذه الإجابة ينقسم سلوك المهاجر القادم إلى بلاد الاغتراب، أو حتى الناشئ فيها؛ فستراه إما ملكيًا أكثر من الملك، أو منعزلًا متقوقعًا على نفسه، أو حالة وسطى متذبذبة قد يصل لها ذهابًا أو عودة من إحدى الحالتين الآنفتين. يشعر القادم الجديد بحاجته للقبول والالتئام مع مجتمعه الجديد، فهو بمثابة الضيف الودود الذي يحرص أن يكون مدعوًا في كل المناسبات القادمة فهو يساعد في التجهيز للحفل، وفي التصفيق الحار والرقص وإلقاء النكات ورفع الأنخاب. هو المضطهد في بلده الذي يسعى لنسيان إرثه المرير سعيًا نحو رضا هذا المستضيف الذي لا يتحمل فكرة أن يزدريه هو الآخر. حاجة الإنسان للانتماء حاجة ملحّة وضاغطة، فإذا صادف أن حاجتك هذه يلبيها مجتمع متصالح ومضياف ستبدو التجربة في مجملها جديرة بالعيش، أما إن وقعتَ في شرك المجتمعات الطاردة فستضطر لبذل المزيد من المجهود للحصول على المزيد من الرضا أو التعاطف ومن ثم القبول.

شاهدتُ منذ مدة تقريرًا يقول فيه مهاجرون قدامى رأيهم في المهاجرين الجدد، كل من طالهم الاستفتاء يحملون الآن الجنسية الألمانية وجميعهم وللعجب يشتكي من تواجد من كانوا يومًا في مكانهم في بلدهم الجديد ألمانيا، كانوا يكيلون السُباب والشتائم للمهاجرين الجدد، حتى أن أحدهم وبألمانية ضعيفة لا تكاد تُفهَم طالب بإخراج الجميع فورًا من “بلده”. قبل فترة انتشر أيضًا فيديو لشاب يمني حصل لتوّه على حق اللجوء في السويد، ظهر في الفيديو يطلب من الجميع التوقف عن القدوم إلى أوروبا لأن القارّة بحسبه؛ ومع خالص الاعتذار، قد “امتلأتْ” حتى آخرها ويتوجب الآن قفل الأبواب. كان يريد أن يقول كمن ظهروا في التقرير أعلاه، أنهم آخر القطرات التي يمكن أن يستوعبها الكأس، هم يعبّرون عن خوفهم من أن يندلق بعدها الكأس بكامله، فلا لنا ولا لهم! كان عليّ أن أتخيّل أنّ صديقنا هو واحد من زمرة المستشرفين الذين نقابلهم في حياتنا العامة كل يوم، الأخ الواشي الذين يحسب أنه يكسب رضا أبويه كلما أظهر مساوئ إخوته، الموظف الحقود الذي يدس لزملائه عند مديرهم ليكسب رضاه، التلميذ المتملق الذي يتجسس علي زملائه مقابل المزيد من العلامات. كل هؤلاء يخطبون ود المجتمع الذي يظنون أنه أعلى منهم بواقع قانون الضيافة أو الوصاية، إنهم يشعرون بالتهديد حتى بعد حصولهم على حق المواطنة الجزئي أو الدائم، أي حتى بعد أن يتحول أحدهم نظريًا إلى مُستَضيف، لكنّه عمليًا يعرف أن بيته الذي أعطاه هذا الحق؛ قد بُني فوق أرضية الغير.

بهذه الطريقة فقط أستطيع تبرير سلوك البعض الحريص تمامًا على أن يبدو مشابهًا لمستضيفه بل ومتفوقًا عليه في مشابهته! فإذا كان في مجتمع يشرب أهله كأس جعة يوميًا سيشرب هو خمسة كؤوس، سيغير اسمه وديانته ولون شعره وشكله ولكنته وملابسه وميوله الجنسية، وسيعلن تخليه عن كل متعلقات بلده الأصل، سيتبرأ ببساطة من كل ما يمكن أن يوصمه بالاختلاف، وسيكون دافعه في ذلك ليس القناعة الشخصية بل هذه الرغبة في “إعادة ضبط المصنع” من جديد.

كنّا ذات يوم نتحدث عن هذه الفكرة فرمى أحدهم بملاحظة لا أستطيع إلاّ أن أوافق عليها، قال إنّه يستطيع أن يميّز المهاجر الجديد من عدد ونوع وأسعار الماركات التي يحرص على ارتدائها، تلك التي تبدو فيها شعارات وأسماء هذه الماركات بارزة على وجه التحديد. وهذه ملاحظة حقيقة كنتُ أستغربها. يحرص المهاجر الجديد على ارتداء حذاء بمائتي يورو ولا يهمه إن كان سيقضي باقي الشهر يأكل الخبز والزبدة، هو يعيش على المعونة ولكنه يظهر كمليونير؛ وهذا المهم. لكن الصدمة التي قد يتلقاها صديقنا بعد مدة من هذا الجهد المضنيّ هو أنّ المجتمع الذي حاول أن يرضيه لا يكترث به حقًاً. هو لا يكترث إلاّ بحقيقة أن الساعة “الرولكس” التي سترتديها في معصمك لن تسرقها وستعمل لأجلها وستدفع لاقتنائها الضرائب. ستبقى المهاجر الذي استطاع اقتناء “لامبورجيني” ولن تستطيع ماكنتها النفّاذة حرف خريطة جيناتك أو إيصالك نحو وجهة “المواطن الأصلي” بأي حال. ما الذي قد تفعله حينها؟ هل ستتعايش مع اختلافك في أفضل الأحوال وتحاول إيجاد مجتمع بديل يمشي وفق مبدأ “زيتنا في دقيقنا”؟ هل تصر على التنصل من جذورك وتحاول استثمار طاقتك في إيجاد التوازن معلّقًا في فراغ بلا جاذبية؟ هل تصطدم مع مجتمعك البديل وتصدّر هويتك التي نُبِذتَ بسببها في مجتمع المهجر؟ هذا الأمر الأخير على وجه التحديد يحدث كثيرًا . مسعود أوزيل الذي ولد وعاش ألمانيّـًا قرّر الزواج من تركيّة، في تركيا، بحضور رئيس تركيا الذي تعرض للعنصرية بسببه. هذا الواقع تطرّق له أمين معلوف في كتابه الفذّ “الهويات القاتلة” عندما وضع ما أعتبرُها أنا نظرية: “الانسان يميل إلى تضخيم وإبراز الانتماء الديني أو الجنسي أو الإثني الذي يشعر أنه مضطهد أو مهدّد بسببه”. عنّي؛ أجد أن هذه مرحلة يمر بها المهاجر في سلسلة مراحل يقتضيها المكان والمجتمع الذي غُرس فيه، إنها وسيلة دفاع يلجأ إليها أحدنا كنوعٍ من المقاومة، كحلٍ أخير في وجه من فعل لإرضائهم كل شيء دون جدوى.

كانتْ أختي تسترسل في حكاويها اليومية إلى أن رنّتْ إحداها في جوفي وتردّد صداها عاليًا، قالتْ إنها عاينتْ البارحة مريضة جاءتْ بأعراض فقدان للذاكرة، تبلغ من العمر ثمانين، غادرت موسكو في عمر الـ 15 وهي تعيش الآن في ألمانيا ومنذ 65 عامًا، متزوجة من ألماني وأولادها وأحفادها ألمان وانقطعتْ صلتها بوطنها الأم تمامًا؛ إلى أن حدثتْ لها جلطة دماغية أفقدتها الذاكرة فنسيتْ كل شيء بما فيها اللغة الألمانية وأصبحتْ تتحدثْ الروسية فقط، غادرتْ 65 عامًا من حياتها وعادتْ من حيث أتتْ، تتذكّر حياتها في موسكو، أمها، مدرستها، تفاصيل ربما لم تعد موجودة بعد كل هذا الوقت ،ولكنه المعنى الفعلي “لحنين الذاكرة”، هكذا عقلها الذي يقاوم فكرة الموت بعيدًا عن رحم الأرض التي وُلد منها، فقد ذاكرته لكنه لم يفقد هويته وظل متشبثًا بجذوره في آخر سطوة للحياة عليه!

كل من مرّ بتجربة التعامل مع مرضى الآلزهايمر سيعرف عن ماذا أتحدث، كيف يقاوم العقل فقدانه لذاكرته، يفقد المرضى ذاكرتهم الأقرب فالأبعد، يبتعدون شيئًا فشيئًا، يتقهقرون رويًدا يغادرون الحاضر للماضي، تفقد شجرة الإنسان ثمارها فأغصانها فجذعها، تهيم كروح في الخواء، حتى إذا حان اقتلاع الجذور يتحول الآلزهايمر من عطوب في الذاكرة إلى مرض في الجسد، تخور قوى المريض الجسدية عند هذه النقطة بالتحديد وتحين النهاية كأنها تقول لنا بوضوح “لا يبقى للمرء شيء إن اُقتلعتْ جذوره”.

الصورة بإذن من الكاتبة

 

 

سناء مبارك، طبيبة أطفال، كاتبة ومدوّنة من عدن، نسويّة، ناشطة في المجال الثقافي ومهتمة بالأدب. تعيش في ألمانيا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى