لماذا تكتب امرأة يمنية عن السينما؟
عندما نشرتُ أوّل مقال في النقد السينمائي في 1 فبراير/شباط 2007، قبل ما سُمّيت بثورة فبراير بفترة غير طويلة، كانت الإحصاءات تشير آنذاك إلى تردي الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع نسبة الأمية، وارتفاع نسبة وفيات الأمهات أثناء الولادة، كما أنّ المعركة في مجلس النوّاب اليمني كانت قائمة حول تحديد السن الأدنى للزواج، وكان الجيش اليمني قد انتهى من معاركه مع ما سُمّي آنذاك بالمتمردين الحوثيين في صعدة.
لقد أطلقت اسم “بحب السيما” على عموديّ الأسبوعي في تحية إلى السينما المصرية التي أدين لها بالكثير، وقد رحّب بذلك الصحفي الأستاذ زكريا الكمالي الذي كان محرر الملحق الثقافي الصادر كل خميس عن جريدة “الجمهورية” وهي جريدة رسمية صدرت لأوّل مرة في 1962 من مدينة تعز، واستمرت مقالاتي في الصدور خلال عامي 2007 و2008 في الملحق الثقافي ثم في مُحلق “فنون” الصادر عن “الجمهورية” أيضًا، وقد كان عمود “بحب السيما” أوّل عمود في الصحف الرسميّة اليمنية يتخصص في السينما، وأوّل عمود لناقدة سينمائية امرأة في اليمن.
ورغم الترحيب الكبير الذي لاقاه “بحب السيما”، فإن الكاتبة لم تسلم من السخرية والاستنكار بين الفينة والأخرى، ولم يكن ذلك من القارئ “العادي” بل من الوسط الثقافي اليمني، كيف تكتبين عن السينما في بلدٍ ليس فيه سينما، وماذا ستضيف مشاهدة يمنية للمشهد النقدي العربيّ!
قيل لي عدّة مرّات من ناشطين سياسيين وإعلاميين، بأنّ من الأفضل لي، كامرأة يمنيّة، أن أكتب عن شؤون بلدي المجهول الذي لا يُعرف عنه الكثير، فاليمن يقع في بؤرة الصراع الإقليميّ، وفيه قاعدة وحوثيون واشتراكيون وناصريون، اكتبي عن العلاقة بينهم، وفي اليمن تموت النساء كل يوم لأسبابٍ قاسية، وأنتِ نسوية فلماذا لا تكتبين عن النساء؟ وإذا أردتِ الحديث عن الفنون فاكتبي لنا عن الشعر الحميني والطرب اليمني الذي سرقته دول الجوار، أو اكتبي عن نقش الحناء، والملابس التراثية، وفنون العمارة اليمنيّة، ورقصة البَرَع والشرح اللحجيّ.
وكنت أشعر أنّ ذلك تعديًا حقيقيًا على وجودي، ولماذا يجب أن أُدفع، كامرأة يمنية، ثمن أخطاء التاريخ والجغرافيا ومصادفاتهما.
لماذا تكتبين عن السينما؟
يبدو لي أن طرح هذا التساؤل، أو هذه السخرية، يكشف، من ضمن ما يكشف، ليس مشكلة لدى السائل في فهمه للسينما فقط وإحساسه بالدونيّة لكونه يرى بأنّ الناقد/ة السينمائي/ة اليمني/ة ليس لديه أو لديها القدرة على مجاراة النقاد من الجنسيات الأخرى، بل أيضًا عن سؤال الكتابة نفسه، لماذا أكتب؟ لماذا يكتب الآخرون؟
لم يكن اختياري للكتابة عن النقد السينمائي قرارًا، ولا أفهم أن تأتي الكتابة كنتاج عن قرارٍ، أقصد أنّ كتابتي للنقد السينمائي جاءت نتيجة لإشباع حاجة بداخلي، كأن تشعر بالعطش فتشرب، تشعر بالحرارة فتدير المروحة أو جهاز التكييف، لستُ أيضًا من أنصار اعتبار الكتابة “فضفضة”، أو تنفيس، كما يبدو غريبًا جدا بالنسبة لي الكتابة من أجل رفع الوعي، أرى أن ذلك تطاولًا على القارئ المجهول الذي لا أعرف من هو!
الكتابة وأنا، مثل ضيف يتجوّل في بيتك، لا بد أن تصادفه يومًا مهما كان بيتك واسعًا، ومهما كنت قليل الخروج من حجرتك، لقد قابلت الضيف وأول ما أردته هو أن أكتب عن السينما!
من ناحية لقد احتفى بالمقال الأغلب، من القراء والكتّاب والناشطين والإعلاميين، لكنّه لم يكن مريحًا دومًا، لأنّه التقييم يمرّ أولًا بكوني امرأة أولا، وُلدت وعاشت في السعودية ثانيًا، ويزيد عدم إحساسي بالراحة عندما يأتي الاحتفاء من “الآخر”، الأوروبي أو الأمريكي تحديدًا، فحينها تظهر كلمات أخرى: حجاب، وعادات، وتقاليد، وفتاة يمنية عاشت في بلدين لا يعرفان دور السينما: السعودية واليمن!، إنّها قصة مثيرة بمقاييس الصحافة التي تريد أن تبيع أخبارًا على غرار الكلب الذي عض الرجل[1] عن فتاة ترتدي الحجاب الأسود وتكتب عن السينما.
بالإضافة إلى قياس أهمية ما أكتبه بقدر ارتباطه بالقضايا التي يراها “الآخر” أنّها يجب أن تكون وأولوية لدي حسب أجندة/موضة السنة لدى المهمتين بالشأن اليمني: النساء، والختان، والحرب، وكل ما يذكرنا أن اليمن بلد عالم ثالثي متخلف.
تواصلت بي ناشطة أمريكية في أغسطس/آب 2020، وكانت متحمسة لمعرفتها أنّ هناك ناقدة من اليمن، وعبرت عن رغبتها بعقد لقاء صحفي معي قد يتحوّل إلى تعاونٍ ما في المستقبل، لقد أزعجتني تلك الحماسة لأنّي أعرف أسبابها جيدًا، سألتني الناشطة عن مدى علاقتي بقضايا النساء في السينما، وبصانعات الأفلام اليمنيات، ومشاركتي في أي ورش عمل لها علاقة بالنساء والسينما، أجبتها بأنّي ناقدة غير مؤدلجة ولا أكتب لخدمة قضايا بعينها، أكتب عن السينما ككل، ولست مرتبطة بأي أنشطة ذات طابع حقوقي/سينمائي في اليمن، لقد أرسلت ذلك الإيميل قبل أكثر من عامين، ولم أتلقَ رد حتى الآن!
هل اليمن بلد بلا سينما فعلًا؟
إنّ اليمن من الدول العربية التي لا يوجد بها صناعة سينمائية، وربما لن توجد هذه الصناعة في القريب المنظور، وربما حتى البعيد، رغم أنّ اليمن قد عرف العروض السينمائية مطلع القرن الماضي في عدن، اليمن الجنوبيّ آنذاك، أثناء الاستعمار البريطانيّ، أي قبل أكثر من مائة عام، وأوّل عرض كان في كريتر، من المنطقة التي أتيت منها، وكانت العروض آنذاك متنقلة في عربات تعرض الأفلام الصامتة، كان ذلك في 1910.
أخبرنا أبي عن مشاهدته لأحدث الأفلام السينمائية في دور سينما أنيقة وواسعة ومجهزة بأحدث الأدوات في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وعلى رأسها سينما “هريكن” وسينما “بلقيس”، وقد عرضت هذه الدور “كلب آل باكسرفيل” (1959)، و”سايكو” (1960) و”الطيور”(1963)، و”جسر على نهر كواي”(1957)، و”الخطايا” (1962) و”أنت حبيبي” (1957) و”رسالة من امرأة مجهولة” (1962) و”الوسادة الخالية” (1957) ، و”سماج كو بدل دالو” (1970) و “سانغام” (1963) وأفلام أخرى.
ومن عدن خرجت دور السينما إلى باقي المحافظات اليمنية، مثل تعز، والحديدة، وصنعاء، ثم بلغ انتشارها ذروته في السبعينيات، لقد عرف اليمنيّون مشاهدة الأفلام في مكانها الطبيعي لفترة من الزمن، ثم بدأ منذ التسعينيات تدهور دور السينما وإغلاقها، فتحولت معظمها إلى قاعات أعراس ومخازن للبضائع، حتى اختفى طقس زيارة السينما بشكلٍ كامل.
لكن مشاهدة الأفلام لم تتوقف في اليمن، اختفى الوسيط الطبيعي والأساسي، لكنّ اليمنيون ظلوا يشاهدون الأفلام، ربما شاهدوا بعضها، مقرصنا، بجودة متوسطة، وربما مارس بعض البائعين دور الرقيب الأخلاقي بحذف المقاطع التي رأوا أنّها مخلّة بالآداب أو خارجة عن المقبول اجتماعيا، لكنّ العلاقة لم تنقطع، أي أنّ الجمهور اليمنيّ ظل موجودًا في اليمن في كل الظروف، ولم يوقفه الفساد السياسي، ولا المدّ الديني، ولا الرقابة الأخلاقية، والنقد السينمائي يُكتب للجمهور لا لدور السينما.
ثانيًا: رغم كل العوائق التي تقف في وجه صناعة الأفلام في اليمن، فإنّ الإنتاج السينمائي لم يتوقف، إنتاج شحيح ومتفرق، ورديء في مجمله لكنّ كانت هناك أفلام يمنية، وهذه الأفلام كان يجب أن تُقابل نقادًا جادّين، يكرسون وقتهم وجهدهم للعملية النقدية. ومن وجهة نظري فإنّ انعدام الحركة النقدية الدراميّة في اليمن، ساهم في ضعف عملية الإنتاج السينمائي، وأدّى بشكلٍ مباشر وغير مباشر إلى المشاكل التي تواجه الجمهور وصانعي الأفلام اليمنيين على حدّ سواء.
أما النقطة الثالثة، وهي الأهمّ بالنسبة لي، فأنا لا أكتب للقارئ اليمني فقط، وإنما أنا مثل أي ناقدٍ سينمائيّ، يقرأ لي كل من يجيد اللغة التي أكتب بها، هذه كانت رؤيتي منذ اليوم الأول للكتابة في النقد السينمائيّ.لماذا أكتب عن السينما في اليمن؟
كان الإصرار على ربطي بالمحليّة اليمنيّة من جهة وبالتخصص في قضايا المرأة من جهة حملًا ثقيلًا، والمجتمع الذي يحتفي بالكتابات النسائية هو من يخنقها أيضًأ، ووسيلتي الوحيدة لمكافحة ذلك، هي الإصرار على ما أقوم به، فالكتابة الجيدة ستجد طريقها إلى القارئ الجيّد، وقد ساعدني في ذلك وجود مجلة إلكترونية متخصصة في السينما، وهي “عين على السينما” التي انطلقت في مايو/أيّار 2011، وهي الموقع الإلكتروني الوحيد حتى وقت قريب جدًا المتخصص في السينما في الشرق الأوسط، دون اشتراطات لجنسية الكاتب/ة، وقد نشرتُ أوّل مقال لي هناك في سبتمبر/أيلول 2014 بعنوان “مالك بن جلول… فص ” سٌكّر” وذاب! ” والذي تحدثت فيه عن المخرج السويدي من أصل جزائريّ مالك بن جلّول الذي رمى بنفسه تحت عجلات القطار في العام التالي لنيله جائزة الــ”أوسكار”.
إن النقد السينمائي يخضع لخصائص كثيرة، أهمها الذوق الشخصي، الذي هو جزء من تكوين الذات، والذات هي نفسها من يقاتلها الكاتب حتى لا تطغى على قلمه، فبقدر أهمية خلفيتي الثقافية، والعرقية، والاجتماعية في الكتابة، عزلها كان هامًا بنفس الدرجة للكتابة.
وعندما يكون الإنسان امرأة يمنية، فإن ما يتوقعه منها المتلقي، يحدّها ويقيدها إن لم تفطن سريعًا للفخ، فخ الانطلاق من الذات والانحباس فيها!
إنّ الكاتب الذي توقفت المعركة بينه وذاته، لهو كاتب محظوظ للغاية، أو هو كاتب لم يوجد بعد.
في روايته البديعة “لو أنّ مسافرًا في ليلة شتاء” يقول إيتالو كالفينو “كم كنتُ سأكتب جيدًا لو لم أكن موجودًا” هذه الجملة الساحرة، والبليغة، والمؤلمة تلخص المعركة التي يخوضها الكاتب في حربه بين ذاته وذاته، هل كنتُ سأكتب جيدًا أكثر لو لم أكن امرأة يمنية؟ هل كنت سأكتب أقل جودة؟ لا أعرف.
الكتابة ليست وظيفة محليّة، ولن تكون يومًا كذلك، ولا أؤمن بوجود كاتب يملك إجابة واحدة وثابتة عن أسبابه للكتابة، ولكي تكون الكتابة خالصة، من وجهة نظري، يجب أن يتخلّص الكاتب من هويّته قليلًا، وعندما يكون الكاتب امرأة يمنية، فإن عليه أن يتخلص من هويته أكثر من الآخرين، وألا يسمح لأحدٍ بحبسه فيها تحت أي مسمى، ولا حتى بحجة التكريم والاحتفاء.
لذلك لا توجد لحظة سياسية معينة يُمكن القول بأنّها الأكثر ملائمة للكتابة عن السينما.
لقد تمت دعوتي مؤخراً للمشاركة في لجنة تحكيم جوائز النقاد للسينما العربية التي توزع على هامش مهرجان كان في فرنسا وهي لجنة تضم أكثر من 160 ناقدًا من حول العالم، وكنت قد انتهيت قبل ذلك من كتابة مقال عن فيلم “حوالة مالية” (1968) للمخرج الكبير عثمان سمبين (1923 – 2007) أو “أبو السينما الأفريقية” للمشاركة في نشرة الدورة الثانية عشرة من مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية (4 – 9 فبراير/شباط 2023) بدعوة من الناقد المصريّ رامي عبد الرازق رئيس تحرير النشرة، المخصصة في هذا الموسم للسينما السينيغالية، تأملت الواقع: كاتبة يمنيّة في بلد خليجي، تشارك في لجنة تحكيم دولية وتكتب عن فيلمٍ سينيغالي صدر في الستينات، بقدر ما تبدو هذه الجملة مُلهمة، بقدر ما هي خطيرة، كوني يمنية هي ميزة، لكن يجب ألا تكون كذلك في نفس الوقت، أن تكتب امرأة يمنية نقدًا سينمائيًا رغم أنّها لم تشاهد فيلمًا داخل وطنها يجب ألا يكون أمرًا باهرًا، أن يكتب إنسانٌ ما، نصًا جيدًا، ذلك هو المهم.
لماذا أكتب عن السينما؟ الإجابة البسيطة، لأنّي أريد ذلك.
[1] تدرّس هذه العبارة في عدد من كليات الصحافة والإعلام في شرح معنى الخبر، وتنص العبارة على ما يلي: “إذا عض رجل كلبًا فهذا ليس خبرًا، بل إذا عض الرجلُ كلبًا فهذا هو الخبر”
هذا المقال بدعم من