النساء والنوع الاجتماعيثقافة

ترجمة بعض الأجزاء المحذوفة من النسخة العربية لكتاب “كنت طبيبة في اليمن” (2)

في تكملة لمقالنا السابق “النسخة العربية من كتاب (كنت طبيبة في اليمن) لكلودي فايان: ملاحظات بخصوص الخيانة في الترجمة” نساهم هنا بترجمة بعض الأجزاء المحذوفة من النسخة العربية التي ترجمها الأستاذ محسن العيني ونشرت في كتاب كانت الطبعة الأولى له عام 1960.

يحمل الفصل الثالث عشر في الكتاب عنوان “قصص من كل لون”[1] في النسخة المترجمة ووردت فيه ثلاثة عشر قصة. والحقيقة أن عنوان الفصل بالفرنسية كان اسمه “vingt histoirs vrais “عشرون قصة حقيقية”[2]. ومن العنوان يظهر جليّاً أن الأستاذ محسن العيني لم يترجم كل القصص في هذا الفصل، بالإضافة إلى اجتزاء بعض القصص التي أوردها ولم ينقلها كاملة. قمت بترجمة بعض هذه القصص من الكتاب الأصلي بالفرنسية إلى العربية وهي لم تترجم أو تنشر من قبل وأوردها هنا لأول مرة منذ صدور الكتاب الأصلي عام 1955. لم نتمكن من نشر كل قصص هذا الفصل لضيق المساحة واكتفينا ببعضها.

أجنبية محجّبة تذهب إلى الحمام

أهدتني الأميرة[3] زيًا تلبسه المرأة اليمنية؛ وهو زي مزود بطرحة من أفضل جودة، “مغموق”[4] مطرز بكثافة، وفستان ساتان أزرق مع تطريزات تحمل أشكال أزهار وردية. وهكذا، قررت ذات يوم أن أذهب إلى الحمام. ولأنني أجهل كيف ألبس هذه الملابس، قامت خادمتي الصغيرة “هاجر” بهذه المهمة. وابتهجتْ لرؤيتي مرتدية زيًا تقليديًا تلبسه نساء بلدها. “جميلة، جميلة يا مدام…”، تمتمت. وفي غمرة حماسها، قامت بتقبيلي على كتفي الأيسر بإخلاص.

ساورني شعور غريب حين سرت محجبة في الشارع. من خلال القماش المخملي الأسود في المغموق، اكتسبت المدينة المشمسة لون الرماد في عينيّ. أنا، التي عادةً ما أكون محط نظرات الجميع، لا يبدو أن أحدًا يراني، ولم تُوجه أي نظرة نحوي. منذ فترة طويلة، تخلى الرجال عن التدقيق في هذه الحزم المتشابهة. وهكذا، فإن العالم بات يشبه الحلم بالنسبة لي. في أحد الأيام، عندما كان المذيع بيير إيشاك يسألني في الراديو، جعلني أجد الكلمة الصحيحة: لم أعد معتمة، بل أصبحت شفافة تمامًا.

تغرق حمامات المدينة – يوجد ثلاثة عشر حمامًا في صنعاء – في عمق الأرض، حيث يعود تاريخها إلى عدة قرون. يُخصص الحمام للرجال في يوم من الأيام، وفي اليوم التالي يكون مخصصًا للنساء. عندما كنت أنزل الدرج، تسرع المستحمات لتحيتي. صديقاتي من الحمام هن صديقات خادمتي الصغيرة.

تجربتي في “حمام علي”[5] جعلتني أنفر من الحمام مسبقًا، فهو مكان يُمارس فيه التمييز الاجتماعي. هناك أناس يحجزون أحيانًا غرفًا معينة لأنفسهم. يجرون بسرعة عبر قاعة يستحم فيها أفقر الناس، الذين لا يدفعون سوى مبلغ ضئيل من البُقش: أجساد عارية ونحيلة ومترهلة، وأسرابٌ من الأطفال على حصائر متعفنة، وماء ساخن بالكاد يوجد في الحوض المركزي.

تتوالى صالات الحمام، وهي تصبح أكثر سخونة كلما انتقلنا من صالة إلى أخرى. خلعنا ملابسنا في صالة تسمى “المخلع”. فردت خادمتي حجابها على الأرض وجمعت ملابسنا فيه وربطته. هيأت نفسي، ومثل أي امرأة أخرى، لففتُ منشفة حول خصري.

في أكثر الغرف سخونة، تقرفص عشرات النساء. أولئك اللائي خلعن المناشف نهائيًا، لديهن طريقة لطي أفخاذهم مما يحافظ على معظم حشمتهن. كانت الجدران والأرضيات من الحجر الغامق، وبالكاد يتسرب نور من فتحات على السقف. في الزوايا، تتدفق نافورتان من الماء المغلي. تغتسل النساء بطين دهني بدلاً من الصابون، وبقطع صغيرة من الأحجار الإسفنجية، تفرك النساء بعضهن البعض بها. ثم يسكبن على بعضهن البعض كميات كبيرة من الماء.

أجلس وظهري إلى الحائط في بخار خانق. أحاطت بي أربع نساء على الفور، وبدأن فركي من أرجلي وذراعيّ، ولم يكن لدي مفرٌ من أن أترك نفسي لهن. بشرتي، نادرا ما تتعرض لمثل هذا “التقشير”، بقماشٍ وبري غزير. كانت النساء مسرورات بهذا العمل الفعال. لا عجب أن سيدات صنعاء، مع هذه الطريقة في الاستحمام، يتمتعن ببشرة ناعمة!

عندما كنت أذهب إلى هناك يوم الاثنين – وبقدر الإمكان كنت أذهب الاثنين – التقيت بفتاة جميلة تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، ومتزوجة بالفعل. أخبرني المهندس[6] أنه التقى ذات يومٍ بامرأة معروفة بسلوكها السيئ وقال لها: “أنت مجرد عاهرة”. لكنها ردت بوقاحة: “لا، بل أنا شيطانة”. أما لطيفة في الحمام فكانت شيطانة بين الشياطين، كانت نارًا ملتهبة. عندما ترقص، وتعيش مع أنغام الرقص بالفعل.

يا للفضول، هذا الحمام أكثر تحررًا اليوم! هل كان ذلك من تأثير وصولي بالزي اليمني؟ رقصت لطيفة عارية الصدر. وعلى الفور، وصلت المرأة العجوز التي تشرف على السلوك الجيد في الحمام، وهي تصرخ، لكن القليل من “البُقش”[7] كان يكفي لتهدئة غضبها. استلقت لطيفة امام ركبتيّ. كانت تتنهد، وتتموج. ضحكت النساء، وأوضحت لي إحداهن ما تريده لطيفة مني. لكني لست هنا من أجل مثل هذا العلاج. دعونا نقلبها ونفرك ظهرها بالحجارة الإسفنجية بقوة.

أمام منزلي، في طريق العودة، كانت مجموعة من الناس المتراصين ينتظروني. حين رأى حراسي هذه السيدة تحت حجابها، قاموا بتنبيه حراس المهندسين، وحراس الدكتور “فينيروني”، وحراس الشارع بأكمله … وكان لا بد لي من رفع “المغموق” الخاص ليتسنى لي الرؤية لعبور عتبة بيتي، ولكن يبدو أن هذه الحركة كانت غير محتشمة. فقد تسنى لدي الوقت لإلقاء نظرة خاطفة على وجوه الجنود الذين يرقبونني بشغف – وكان انطباعهم لافتًا.

لكن لا، من الآن فصاعدًا، من أجل سلامتي ومن أجل تأدب حراستي، لن أرتدي بعد الآن لباس امرأة صنعانية!

الرحيل من آخر قرية يهودية

مائتان من سكان قرية يهودية يقيمون في حي اليهود السابق بصنعاء، ينتظرون نقلهم إلى فلسطين. تم إجلاؤهم إلى هذا الحي لأنهم أتوا من منطقة شمالية بعيدة. هم من السكان الأصليين في اليمن، ولا شيء مادي يميزهم عن المسلمين اليمنيين. باستثناء أن لدى الرجال ضفائر، أما النساء، غير المحجبات، فقد كانت رقابهن وجباههن مغطاة بالجواهر.

أحضر لي رجل في الثلاثينيات من عمره والده العجوز المريض، كان الابن حداد القرية. بعد ذلك، غالبًا ما كنت أقابله في الشارع، وكان يشغل فترة انتظاره بإصلاح الأواني والمقالي. في بعض الأحيان، عندما كان يراني قادمًة، يتخلى عن عمله ويرافقني ويحدثني لبضع دقائق. لم يغادر قط ريفه مسبقًا، وبدت صنعاء، أول مدينة كبيرة يعرفها، كانت أعجوبة بالنسبة له. ومع ذلك، فهو يظهر رفاهية تامة. أما ممتلكاته، فقد باعها وهي في حالة جيدة، مقابل القليل من المال. هل هو نادم على المغادرة؟ إنه حزين لأنه يتوجب عليه مغادرة بلده، لكنه سعيد بالذهاب إلى فلسطين. أظهر لي ضفائره، والعقد السبع التي تحدد أطراف وشاحه وشرح لي أنه هناك، ستختفي كل هذه العلامات المميزة، وأن الناس سيكونون جميعًا متشابهين. أخبرني كيف تلقى أمر المغادرة، وقد نقله إليه مسؤولون يمنيون. لكنه قال لي: “إن مَلِك إسرائيل هو الذي يدعونا، وقد اتفق مع الإمام على عودتنا …”.

تمنيت له رحلة سعيدة والتوفيق في حياته الجديدة. أجابني بصيغ إسلامية نموذجية لدرجة أنني لاحظت ذلك: “لكنك يهودي. فكيف تتحدث عن الله هكذا؟” لذلك، غير ملامح وجهه، وبدأ في خطاب بليغ لافت للنظر. اجتمع الناس من حولنا؛ فقط عسكري كان ذا طلة سيئة، هو من احتج: “لماذا تستمعي إلى هذا اليهودي؟” قلتُ له إن لكل شخص الحق في الكلام، واتفقت الأغلبية معي. بموهبة خطابية مذهلة من جانب إنسان بسيط، أكد على قدرة الله، نفس الإله لكل البشر في كل مكان.

العمل الفني لأماني باحشوان

فاطمة سوداء

ذات صباح، عندما وصلت إلى المستشفى، رأيت زنجية صغيرة حقيقية في السرير. المولدون، أحفاد العبيد السابقين، ليسوا نادرين في اليمن. لكن مثل هذه الفتاة السودانية النقية هي الاستثناء. اسمها فاطمة، وهي لا تعرف من اللغة العربية سوى آيات قليلة من القرآن. لقد أتت من السودان المصري. قبل ذلك بثلاث سنوات قرر جميع سكان قريتها فجأة، متأثرين بكلمة واعظ ملهم، الذهاب في رحلة حج إلى مكة. شرعوا في بيع ممتلكاتهم لكسب بعض المال. وصلوا بخطوات صغيرة إلى ساحل الصومال وكانوا إما أن يتسولوا أو يعملوا. وفي أضيق نقطة عند باب المندب، عبروا البحر الأحمر على قوارب شراعية، وكان المراد مما بقي معهم من أموال هو دفع تكاليف هذا العبور. نزلوا في محمية عدن، واتخذوا طريق الشمال عبر اليمن للوصول إلى المملكة العربية السعودية. مات الكثير، وتخلف عدد قليل عن الركب، لكن بالمقابل وُلد أطفال في الطريق. من ثلاثمائة مسافر، لم يبق منهم إلا مئة فقط وهم يخيمون الآن قبالة باب اليمن. مرضت فاطمة الصغيرة ونقلوها إلى المستشفى.

يأتي الأفارقة بأذرع طويلة ورفيعة لرؤية الفتاة. جَرب معهم المترجم عبده كل المصطلحات التي يعرفها، لكن دون جدوى. شيئًا فشيئًا، تعافت فاطمة، اشتروا لها حمارًا ليحملها، وانطلقت القبيلة ببطء في الطريق. لكنها لن تذهب بعيدًا: فقد حدثت انتكاسة قوية، وأرجعوا فاطمة إلينا، وماتت. فاتت مناسك الحج إلى مكة لهذا العام! لكن على أي حال، سيذهبون العام المقبل.

كل عام تقريبًا تمر من صنعاء قبيلة مسلمة أتت من إفريقيا السوداء. عندما يصلون إلى الأماكن المقدسة للإسلام، مكة، ينسى الرجال الطريق إلى قريتهم التي غادروها منذ فترة طويلة. ولن يعود إليها الكثير منهم مرة أخرى.

الهيدروليك في صنعاء

على شرفة المنازل الكبيرة في صنعاء، كنا نرى أحيانًا دخانًا يتصاعد: إنهم يقومون بتسخين مياه حمام الأميرة. أنبوب ينزل من الخزان إلى الحمام. كميات من الخشب – حمولة جمل بأكمله للاستحمام – ضرورية لهذا الحريق المكشوف في خزان السطح. لماذا لا يُسخن الماء في موقد داخلي؟ سيكون التوفير في استهلاك الوقود كبيرًا. يمكن أن ترتفع المياه الساخنة، ولكنهم لا يعرفون هذه الطريقة هنا.

استقر سفير مصري في صنعاء أثناء إقامتي. خليل رشدي، من عائلة مصرية كبيرة، وهو صديق لفرنسا، درس القانون في باريس. لا تزال المربية البورغندية التي ربته تعيش مع أسرته في القاهرة. ذكيٌ وحساس، يشكل فيه الشرق والغرب مزيجًا رائعًا، وقد شرفنا بصداقته. يُنظم مسكنه وفقًا لمبادئ أكثر حداثة، ويتولى صديقي المهندس بناء الحمام ونظام التسخين. ابتكار جريء، يرغب المهندس في تسخين المياه باستخدام موقد موجود في الطابق السفلي، وقد اعطى عمله المؤشرات اللازمة. بدأت الأعمال في جو عام من الشك والريبة. لكن صديقي مرض، واضطر للتخلي عن عمله لفترة. سيطرت عليه حمى شديدة ألزمته الفراش، علم ذات يوم “بأن العمل لم ينجح” وأن البنائين قد هدموا كل شيء في الطابق السفلي، وسيبنوه بالطريقة القديمة على السطح! على الفور، قام، وركض إلى منزل السفير، وصعد إلى السطح، وهدم كل شيء بدوره. كان هذا أول شيء يجب القيام به: ثم تركوه يعيد من جديد فكرته الخاصة … لم يظهر البناؤون أية نية حسنة في العمل، ويجب الانتباه لأدق التفاصيل. أخيرًا، أتى اليوم الكبير، كل الأمراء كانوا هناك، وفُتحت الحنفية … لا شك أن المشككين كانوا مرتبكين، فالماء الساخن ارتفع جيدًا.

في اليوم التالي، تلقى صديقي رسالة جميلة، مكتوبة بعناية بخط يد أفضل الخطاطين العموميين. تم التوقيع عليها من قبل رئيس عمال البناء في السكن. كتب “سامحنا يا مهندس! أنا عجوز وكلنا جاهلون. لكن من الآن فصاعدًا سنثق بك.”

لقد تأثرت بهذا التعويض المشرّف. لكن المهندس – هل كان على حق؟ – كان أكثر تشككا. وقال لي مرة أخرى مثلًا عربيًا: “اليد التي تأمرك، إن لم تستطع كسرها، فقبلها”.

أحداث متنوعة في الشارع

  إذا لاحظتم رجلاً سارحا في التفكير في الشارع يمشي ببطء، وعيناه مثبتتان على الأرض، فيمكنكم التأكد من أنه بحاجة إلى الذهاب إلى الحمام، وأنه لا يوجد أي حمام قريب منه. فهو يبحث الآن عن حصاة في رمال الشارع. وعندما يجدها، سيتجه إلى إحدى الزوايا وينحني مثل المرأة، لتجنب تناثر السوائل. وسيستخدم الحصاة للمسح. فلا ينجس البول ثياب ابن الله.

***

امرأة تقود بقرة مغطاة بقطعة قماش. هل تقيها من الشمس، أم تحميها من المطر؟ لكن الطقس مثالي. لا، إنها تحميها من العين لأنها ممتلئة. لكنني أرعبتها، فقد التقطت لها صورة، وهو أمرٌ مخيف بلا حدودٌ! قادتها المرأة مبتعدة وهي تلعنني.

العمل الفني لأماني باحشوان

في المستشفى

ألقى سنونو بنفسه على زجاج إحدى النوافذ في الليلة الماضية. بالتأكيد جذبته الكهرباء التي تم تركيبها حديثًا. أرتني خادمة الغرفة الطائر الميت والزجاج المكسور. لكنها في نظر الإدارة مسؤولة عما حدث، وخصم المدير خمس ريالات ماريا تريزا[8] من أجرها الشهري (ثمانية ريالات).

***

ترتبط ثقة مرضاي في العلاجات الحديثة بشكل فكاهي مع المعتقدات القديمة. يشاع بينهم أن لسماعة الطبيب ومقياس الحرارة مزايا علاجية، ويشعر المرضى بخيبة أمل كبيرة إذا لم يستخدمها الطبيب. ذات مرة طلب مني رجل عجوز حقنة ليضمن دخوله الجنة بعد وفاته.

***

كنت أعتني بامرأة عجوز. وكنوع من أنواع البركة، كانت تلعق أصابعها بكثرة وتمسحها على رقبتي.

***

تركت ما يكفي لامرأة فقيرة لشراء الأدوية التي وصفتها لها للتو. أعطتني خاتمًا كنوع من الشكر، خرز زجاجي بسيط في قطعة نحاسية. في اليوم التالي، سألتني ممرضتي لماذا أرتدي هذا الخاتم البائس. أخبرها المترجم عبده بظروف حصولي عليه. لذلك قامت بانتزاع خاتم فضي جميل من إصبعها، وأعطتني إياه كهدية.

ازدراء

 رافقتني الممرضة نجيبة[9] إلى أمير في استشارة طبية. نقل الدويدار المناوب الأمر إلى العسكريين بإعادتنا بالسيارة. رفض أكبر سائق في السن رفضًا قاطعًا، وصرخ: “أنا أقود امرأتين. لو رآني أي شخص، سأحمر خجلًا!” ونقل مهمة إعادتنا إلى سائق آخر.

مديح

كان رجل يراقبني وأنا أقوم بشق الخراج الذي كان يشوه ذراع طفله: “أنت قوية وشجاعة مثل الجمل”، قال لي متأثرًا، وشكرني.

***

كان الأطفال ينادونني في الشارع “سمينة”. حسنًا، من الواضح أنني لست رشيقة، ولكن مهما يكن! فلنقل إنهم يقارنونني باليمنيات الصغيرات. لكنهم أيضًا كانوا ينادونني: “الحكيمة القمر”. لا تفكروا بأن ذلك كان أمرًا سيئًا، أود أن أشير إلى أن القمر في الثقافة العربية هو رمز للجمال الأخاذ.

المواليد

  لقد وضعتُ في أحضان رجل عجوز الابن الأول الذي ولد له للتو. أغمض عينيه وابتهل بشكره بصوت عالٍ. مشاعر الأب هي نفسها في كل مكان في ظروف مماثلة، لكن كم هي جميلة وطبيعية طريقة العرب الغنائية في الشكر، يا لها من موهبة رائعة للتعبير!

***

وضعتْ سيدة بائسة طفلها العاشر. لقد كان مسخًا، ليس له ذراعين وبالكاد تظهر له يدان. تركته في زاوية، متمنية موته، لكنه كان ما زال يتنفس، ويعيش. وحينها بدأت الأم، المنهكة من المخاض والحمل المتعدد، بنواح يفطر القلب. وتوسلت إلى الله: “يا إلهي! انظر ماذا فعلت بطني! أنا متعبة جدًا، ما عدت أستطيع التحمل بعد الآن. ارحمني، ما عدت أريد المزيد من الأطفال”.

الشعب وأمراؤه

اصطحبني الابن الأكبر لنائب الملك[10]، البالغ من العمر ثلاثة عشر عامًا فقط، إلى منزلي بعد استشارة طبية في القصر. هو نفسه يقود سيارة والده الأمريكية الجديدة. يرافقه إخوته الثلاثة، كان الطفل البالغ من العمر 12 عامًا يحمل الطفل البالغ من العمر خمس سنوات على ظهره، بينما يحمل الطفل البالغ من العمر ثماني سنوات حقيبتي. وأثناء مرورنا، أخذنا معنا أيضًا أطفال الحارس الثلاثة. وجلستُ بجانب “السائق”، إنها حمولة من الأطفال في الخلف. رافقتْ نظرات العسكري الذي فتح باب دار الشكر خروج السيد الشاب بحنان واهتمام واحترام.

***

دعاني مدير مدارس صنعاء إلى عشاء للرجال. أما الضيوف الآخرون، فقد كانوا الأمير مختار الذي التقيته في حمام علي، وعقيد من الجيش اليمني ومسؤول خزينة كبير. يتشارك عبده المترجم وعبد الله، سائق عربتي، وجبتنا، وكذلك موظفي كل مسؤول. إنهم يكنون الكثير من الاحترام للأمير، لكنهم كانوا يتعاملوا معه برفع التكلفة تمامًا في هذا الاجتماع.

***

استقل نائب الملك الطائرة من المطار لرؤية الإمام في تعز. في وقت المغادرة، اندفع فلاحٌ وأخبره بحدة بقصة معقدة للغاية. حضر العديد من الغرباء هذا المشهد ويبدو أن الأمير كان يشعر بالملل، لكن لم يقاطع أحد الشاكي وانتظروا حتى ينتهي. أكد الرجل أن جابي الضرائب فرض عليه ضرائب باهظة. ونظرًا لأنه لم يكن قادرًا على دفع المبلغ المحدد، فإن عشرات العسكر يسكنون في مزرعته وهم يأكلون حاليًا كل شيء. لا أعرف ما الذي جرى فيما بعد من أجل هذه الشكاوى، لكن هنا، على أي حال، لا يشعر الصغار بالانفصال عن الكبار.

امتحانات طبية

 قام سيف الإسلام إسماعيل بعمل امتحان هذا الصباح لممرضي المستشفى الذين يعتبرون جديرين بأن يصبحوا أطباء يمنيين. كان جالسًا على مكتب مدير المستشفى، بجانبه عسكريان مسلحان. يطرح الأسئلة ويقيم الإجابات. أما أنا والطبيب “فينيروني” فقد كنا نساعد. يتم مقارنة الممرضين بجانب بعضهم البعض. “سُكّر؟” يسأل الأمير بجدية. يتكلم الممرض عن مرض السكري. علامات الموت؟ يسأل التالي. إنه “سؤال صعب” أغرق الممرض تعيس الحظ في حيرة عميقة … ثم يتم تسليم الشهادات للأصلح. يوقع الأمير أولاً، ثم مدير المستشفى، ثم الدكتور “فينيروني”، ثم أنا.

العدالة اليمنية

كان الفتى الذي يعمل في الصيدلية متهما بسرقة الكحول. لقد نفى السرقة. وأمام القاضي، أخرج الجنبية وقطع إصبعه الأيسر لإثبات صدقه.

***

ضرب رجلٌ رجلًا آخر. بالنسبة للطمة الأولى، يُحكم على المعتدي بغرامة ريالين. وللطمة الثانية خمسة ريالات. لكن إذا صفع المعتدي الضحية ثلاث صفعات، فلن يكون عليه أي غرامة. لقد قال القاضي للمشتكي: “إذا كنت قويًا كالآخر، عليك أن تدافع عن نفسك بعد ثلاثة لطمات. وإذا كنت الأضعف، فلماذا لم تهرب.”

***

أخبرني طيار عن تنفيذ قطع رؤوس منفذي مؤامرة قتل الإمام يحيى التي شهدها. كان ثلاثة رجال راكعين في صف، متباعدين تمامًا، وأعناقهم ممدودة، وعيونهم معصوبة. يؤدي السياف الذي يحمل سيفًا كبيرًا حولهم نوعًا من الرقص الدائري، مصحوبًا بقرع الطبول. تضيق دائرة الرقص تدريجياً. وفي نهاية كل رقصة من رقصاته الثلاث يتدحرج رأس مفصولا عن جسده.

الإدارة

 دُعيت لاستشارة طبية في دار السعادة، وصلت في الوقت الذي يتم فيه توزيع ميزانية الشهر على الخدمات العامة للمدينة واللواء[11]. على درجات القصر، في كل مكان، يتم تفكيك أكياس من ألف ريال ماريا تريزا، وتتراكم صفوف من العملات المعدنية في أكوام متهالكة، والناس يأتون ويذهبون، ويتحركون وسط أكوام من العملات الفضية. مصروفات لواء بأكمله من عملات فضية، مشهد قد لا يشاهده المرؤ لفترة طويلة.

***

وجد المهندس أن بريده يستغرق وقتًا طويلاً ليأتي من تعز. هل تنتهك سرية مراسلاته؟ ناقش الأمر على أساس طوابع البريد، في الحقيقة لقد كانت غير واضحة بعض الشيء. أجاب ساعي البريد: ” يا مهندس! منذ ثلاث سنوات لا نعمل بالطوابع. بالطبع نحن دائمًا نختم الرسائل، لكنه دائمًا نفس التاريخ الذي نطبعه …)

حب

هل تعرفون “لسعة البعوض”؟ عملية جدًا للتحقق من نوايا سيدة محترمة لا يعرف الرجل لغتها. ربما كان هناك بعوضة! يصفع الرجل صفعة كبيرة على ذراع السيدة التي تمتد برفق. بعوضة أخرى! يصفعها على الفخذ بنفس الأثر. بعد الثالثة، إما أن تقوم السيدة بدورها بسحق حشرات صغيرة على الرجل، والأمور ستسير بهذه الطريقة على الطريق الصحيح، أو لا فائدة من الاستمرار.

دعابة

عرض عليّ المهندس نزهة بدراجة نارية إلى الروضة. على هذه المسارات المقطوعة بقنوات الري، تعتبر هذه النزهة تمرين مؤلم في الطرق الوعرة… وأخيراً سنعود إلى المدينة. معلقًة خلف صديقي، كنت أهتز بشكل مزعج للغاية، وبهذا بدا أن النزهة لا تنم عن أي راحة قضيناها. التقينا بإحدى القوافل التي غادرت المساء من صنعاء لتتجه إلى عمران. في مقدمتها، امتد على جمله سائسٌ غير مكترث، يهتز بلطف … نظر إليّ من على ارتفاعه وأعجبه التباين في مظهري على الدراجة. أشار بإبهامه إلى الطريق أمامه. ثم غمز إليّ بنظره إلى المكان الخالي خلفه. وبابتسامة سألني: “أتأتين معي؟”

[1] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، ترجمة محسن العيني، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004، ص 159.

[2] – Claudie Fayein. Une Française médecin au Yémen, Paris, R. Julliard, 1955, 145

[3] – تقصد بها الأميرة “بدر الدين” زوجة الإمام أحمد، التي تناولت قصتها في هذا الفصل في حوالي ست صفحات لم يترجم محسن العيني منها إلا صفحة ونصف. كنت طبيبة في اليمن، ص 173.

[4] – قطعة قماش عادة ما تصنع من الحرير أو القطن وغالبا يكون لونه أسود يلف به الرأس كحجاب ليغطي الشعر ويكون كاللثام ليغطي الوجه.

[5] – زارت كلودي فايان “حمام علي” اثناء مرورها إلى صنعاء قادمة من طريق تعز الحديدة ثم حمام علي ومعبر وصولاً إلى صنعاء. وذكرت تفاصيل دخولها حماما للنساء أثناء مرورها في هذه القرية. كنت طبيبة في اليمن، ص 95 – 100.

[6] – مهندس يوغسلافي قدم إلى صنعاء لتشييد محطة الإذاعة وتحدثت عنه في اكثر من موضع في كتابها. كنت طبيبة في اليمن ص 159

[7] – جزء من العملة كان يستخدم في اليمن الشمالي سابقَا واستمر استخدامه إلى ما بعد ثورة 1962

[8] – ويعرف أيضًا بالريال الفرنسي أو (الفرانصي) (Thaler Marie Thérèse) وهو دولار الامبراطورة النمساوية التي طبعت صورتها على أحد وجهي العملة وعلى الوجه الآخر شعار الإمبراطورية النمساوية المتميز بالنسر ذي الرأسين والتاج الإمبراطوري، والمؤرخ سنة 1780م. وكان هذا الريال يستعمل في اليمن وفي انحاء الجزيرة العربية في المعاملات الرسمية والتجارية حتى صدور العملة الورقية في اليمن الشمالي سابقًا عام 1964، بالرغم من ضرب عملة فضية مقابل الريال باسم الجمهورية آنذاك، وقد بقي الريال مقسمًا إلى أربعين بقشة حتى استبدل بذلك النظام العشري عام 1975م حين اصبح الريال مقسمًا إلى مائة فلس.

[9] – نجيبة، فرنسية كان اسمها “فرانس هوس” تزوجت من مهيوب، أحد عساكر سيف الإسلام العباس، وأعلنت اسلامها وغيرت اسمها إلى نجيبة، واشتغلت كممرضة. وقد استقت منها كلودي فايان كتابها “حياة النساء في اليمن، حكايات صديقتي فرانس هوس”، ترجمة بشير زندال، منشورات جامعة ذمار، ذمار، 2008.

[10] – الحسن بن يحيى حميد الدين.

[11] – كانت تسمية اللواء هي المعتمدة بدلا عن المحافظة في ذلك العصر.

اظهر المزيد

Bachir Zendal

Assistant Professor in Translation and French Literature at the University of Dhamar. Bachir is a translator and short story writer. He has a number of publications, both in translation and literature.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى