غير مصنفإبداع بصريتاريخ

حكاية من مدينة قديمة: إشارات من فيلم “عبر الأزقة” ليوسف الصباحي

منجز جديد تحققه السينما اليمنية بفوز الفيلم القصير ‘عبر الأزقة’ للمخرج يوسف الصباحي بجائزة مهرجان هوليوود الافلام العربية للعام ٢٠٢٣. قبل ذلك، كان الفيلم قد تم اختياره للمشاركة في مهرجان البحر الأحمر السينمائي٢٠٢٢ بمدينة جدة السعودية ثم في مهرجان سانت لويس الدولي السينمائي بأمريكا.

عبر حوالي عشرين دقيقة هي مدة الفيلم يأخذنا الطفل أحمد الى عالمه الصغير في رحلة شراءه للخبز في ظهيرة أحد الأيام بمدينة إب القديمة. إنها حكاية بسيطة هادئة يستطيع المخرج عبر أحداثها تقديم بانوراما لتفاصيل الحياة اليومية، وهي التفاصيل التي يختارها الصباحي بعناية مستكشفا إنسان ومجتمع المكان الذي نشأ فيه.

الاعتيادي الجديد

يستفيد الصباحي من تجارب السينما الطليعية التي لا تركز على الحكاية بقدر تركيزها على طريقة الحكي وهي سينما متقشفة، مقتصدة في أدواتها لأنها كانت وليدة ظروف مشابهة لظروفنا الحالية في اليمن. فقد نشأ تيار الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث كانت الاستديوهات ومواقع التصوير قد دُمرت تماما وكان على صناع الفيلم تقليل اعتمادهم على التجهيزات التقنية قدر الإمكان. هذا التيار أثر بشكل ملحوظ على السينما العالمية; وبالمثل تعاملت الموجة الجديدة في السينما الايرانية مع مادة الواقع وإعادة تقديمه بالأسلوب السهل الممتنع الذي يضفي لمسة شعرية على التفاصيل اليومية بحيث تبدو وكأنها جديدة رغم أننا نلامسها يومياً وفق مفهوم ‘نزع الألفة’ المتمثل في سعي الفن لكسر علاقتنا الاعتيادية مع الأشياء بغرض النظر إليها من جديد.

صورة من فيلم عبر الأزقة بإذن من يوسف الصباحي

هذا التقشف في عملية إنتاج الفيلم ولّد جماليات جديدة تركز على الشخصية أكثر من الحدث وعلى السياق أكثر من الحبكة وتحرص على رتم بطيء يسمح بقراءة عناصر الصورة السينمائية ولا يستعجل في دفع التتابع الزمني الخطي للحكاية نحو الأمام. وضمن العناصر التي وظفتها السينما الطليعية اعتمادها على أشخاص غير ممثلين لإعطاء قصة الفيلم واقعية أكبر وذلك بالضبط ما سار عليه الفيلم في تقديمه للشخصيات، فالممثلة الوحيدة التي تمتهن مهنة التمثيل هي نور البعداني التي أدت دور الأم أما بقية الشخصيات فمن الواضح إن الصباحي قد استطاع استخراج إمكانياتها بما يتلاءم مع طبيعة الدور وحجم الظهور. ويحسب للفيلم براعة أداء الممثلين كما نرى في مشاهد شجار الجيران وحوار الأطفال أثناء اللعب على سبيل المثال.

بين الخصوصية المحلية والعالمية

يتميز فنان عن آخر في كيفية نسج التفاصيل في توليفة جديدة تكشف اختلافه في الرؤية والأسلوب، هذا الاختلاف هو أيضا السبب الذي يجعل مئات الحكايات المتشابهة مختلفة في تفاصيلها وطريقة سردها. كان قالب الحكاية المتمثل بالرحلة او المغامرة -ان جاز التعبير – مناسبا لتناول أكثر من فكرة ضمن حيز زمني قصير لذلك حفل الفيلم بالكثير من الالتقاطات و الإشارات الغنية التي لا تخلو من دلالات ثقافية و اجتماعية والتي بدورها تكشف فرادة الحكاية و خصوصيتها  بدءا من زمن الفيلم الذي يدور وقت الظهيرة الذي يعد ذروة اليوم في اليمن حيث ينتهي الدوام الوظيفي و يبدأ الناس بالانصراف;هنا حضر المطبخ على خلفية البرنامج الشهير ‘أوراق ملونة’ [1] التي تستمع إليه ربات المنازل أثناء تحضير طعام الغداء، كما نرى تناول الزوج للطعام في السوق وإهماله توفير حاجيات الغداء للمنزل في إشارة الى الأدوار المختلفة للزوج والزوجة في داخل وخارج المنزل والتي بدورها تتأثر بمفاهيم النوع الاجتماعي السائدة في المجتمع.

صورة من فيلم عبر الأزقة بإذن من يوسف الصباحي

يتم توظيف التهليل الجماعي المنغوم والإنشاد الخاص حول الزهد والموت الذي عادة يصاحب طقس الجنازة، كثيمة موسيقية لتتر نهاية الفيلم، وهو طقس قام الفيلم بتوثيقه إضافة الى استثمار دلالته داخل القصة، إ ذ تشير لقطة مرور النعش بمحاذاة ‘سينما اللواء الاخضر’[2] الى زمن موت دور السينما الأهلية في اليمن واندثار مرحلة ثقافية كاملة مع مطلع الألفية.

 بعض الأفلام لا تكتفي بسرد حكاية، بل تحرص أيضا على عرض صورة مصغرة للمجتمع من خلال تقديم طقوس الانتقال (الزواج، الموت الميلاد) أو الاشارة إليها على الأقل وذلك ما ينتبه إليه المخرج حيث يحضر طقس الموت بمشهد أطول زمنيا من طقس الزواج الذي لم يظهر إلا صوتيا من خلال الزفة الشهيرة لمنى علي. يعكس هذا الحضور مسألة وجدانية عميقة لدى اليمنيين وهي حالة التقبل الغريبة للموت باعتبار الموت يستدعي حالة تكافلية أكثر من الزواج.

كل تلك الإشارات هي جزء من أحداث يومية في إب القديمة وفي أي مدينة يمنية، مع بعض الاختلافات بطبيعة الحال، يستطيع الصباحي رصدها بعناية وبتمهل المدرك لجمالياتها لذلك كان كل كادر في الفيلم يقدم قراءة بصرية ولا يعتمد بشكل أساسي على الحوار فقط.

صورة من فيلم عبر الأزقة بإذن من يوسف الصباحي

كان إشباع الحوار باللهجة المحلية مقصودا وواعيا وقد يقول البعض بإنه كان من الأفضل استخدام ‘لهجة بيضاء’ لكن ذلك قد يسلب الفيلم أهم ما فيه وهي مفارقة الإغراق في المحلية بغرض اكتشاف قيم جمالية وإنسانية نابعة من العمق الوجداني و النفسي للشخصية اليمنية و أيضا الالتفات للتنوع اللغوي الذي نمتلكه فكل لغة محكية هي وجهة نظر عن العالم.

تحضر أيضا الاشارة الى أنماط شخصية خاصة تقترب من الأساطير المحلية كشخصية عبده القِلى الذي ‘ رقص تحت المَسرَجة’, انها شخصية الهزلي السعيد صاحب الحياة الحافلة المليئة بالنوادر والنكات ومن الاسم تتضح الاشارة الى الشخصية الشعبية ‘حُمادي القِلى’[3] الذي يمثل النسخة المحلية لشخصية جحا الشهيرة. بهذه الرؤية المتوغلة في المحلية، يسعى الصباحي إلى إثبات ابتعاده عن أي مرجعية ثقافية أو جمالية خارجية تملي عليه اختياراته الفنية وقناعاته الفكرية فلا حضور هنا سوى للجذور والخصوصية المحلية التي هي وحدها بصمة اليمنيين المميزة.

جماليات الزقاق

يمثل المكان عنصرا أساسياً في العمل السينمائي، و في فيلم كهذا  تبرز تفاصيل المكان كمسرح للأحداث بدءا من عنوان  الفيلم حيث لا تصبح المدينة القديمة مجرد خلفية للقصة بل نقطة تتلاقى عندها كل خيوط الحكاية الرئيسية مع حبكاتها الفرعية، ففي مجتمع المدينة الصغير حيث الجميع معروفون حتى مع كونهم غرباء;  بالمثل تصبح الأزقة التي هي شرايين المكان بمثابة متاهة مألوفة  لذلك كانت المشاهد التي تتم في ساحة أو مكان فسيح تتبعها مشاهد داخل الزقاق كما كان تعارف أحمد مع العم عبده ومحمد البوصي بمثابة انفراجة تفضي الى احداث جديدة.

تعاملت كاميرا الفيلم مع الزقاق باعتباره الحيز الذي يتشكل وفقا لعناصر مكانية اخرى إذ يكتسب أبعاده بناءً على مواقع المنازل المحاذية و المتوازية معه فهو ليس مكاناً مستقلاً بذاته بل مسار تنتظم حواليه و على جانبيه أماكن اخرى لذلك كانت المشاهد الحوارية في ساحات أو أماكن مفتوحة نسبياّ بينما بقي الزقاق مركزاً للمشاهد المتحركة حيث المشي واللعب وقد حاولت كاميرا الفيلم في كثير من الكادرات تناول الزقاق ببعد منظوري  كما في لقطة لعب الاطفال بالكرات الزجاجية  بينما خلقت معظم  اللقطات الطولية التي تظهر فيها نهاية الزقاق في أقصى الصورة  نوعا من الترقب لما قد يحمله الزقاق من مفاجأة. ومثلما تلعب هندسة المكان دورا في تأثيث الاحداث فإنها أيضا أعطت الفيلم لمسته الخاصة ويمكن القول إنها ولدت الحالة الذهنية المطلوبة لتلقي الفيلم، فالأزقة بتعرجاتها ومنحنياتها وغموض نهاياتها ساهمت في خلق نبض لمجريات القصة.

من قارب الخوف أمِن

صورة من فيلم عبر الأزقة بإذن من يوسف الصباحي

يشتغل الفيلم على عدد من الثنائيات لتوليد المضمون، حيث نجد القوّارة (الغطاء القماشي الذي يُستخدم لحفظ الخبز ويصنع من قطع القماش الفائضة) في مواجهة الكيس البلاستيكي وهي الثنائية التي يمكن فهمها أولا على مستوى ثنائية الطبيعة -أو ما هو طبيعي- في مقابل الإنسان – ما هو من صنع الانسان – لكنها أيضا تحتمل مستوى تأويلي آخر يتمثل في ثنائية التقليد والحداثة؛ ما توارثناه وأصبح جزءا من الخصوصية وما تفرضه الحداثة من تحول يصعب تجاهله خاصة في أساليب العيش وأنماط التفكير.

ثنائية أخرى يتناولها الفيلم من خلال حديث الشاب في الطريق الى الجامع وحديث العم عبده عن مسألة القضاء والقدر وكيف أن الحياة تجري بلطف الله وحكمته وهي المسألة الخلافية دائما بين الإرادة البشرية والقدر المحتوم؛ بين النظام الاعتقادي المؤمن بالأسباب الخفية والنظام المعرفي المدرك لقوة العقل ومنطق السببية الصارم. هذه الثنائية تم التطرق لها بذكاء عبر تفصيل بسيط، حول جدوى شراء الخبز بالقوّارة، والذي يتحول الى نقاش يظهر مقاومة الوعي الشعبي لمقولات العلم.

 تجسد الأمثولة الشعبية التي رواها العم عبده للطفل أحمد إحدى رسائل الفيلم الهامة والتي تشير بقوة الى ضرورة الاتكاء على حكمة الأجداد وأهمية استمرار حوار الأجيال مع الموروث، وبذلك يحشد الفيلم عددا من الإشارات المستوحاة من ثقافتنا الشعبية في عمل سينمائي جدير بالجوائز وبالاحتفاء ليس فقط ليمنيته ولكن لما يحمله من فن ورؤية وجمال كما أنه بالنسبة لكاتبه ومخرجه يوسف الصباحي يمثل نقلة نوعية في تجربته السينمائية بما يعطيه الثقة لإخراج فيلم روائي طويل نتمنى مشاهدته في المستقبل القريب.


[1] أوراق ملونة : برنامج إذاعي شهير كانت تبثه إذاعة صنعاء  لسنوات طويلة و تقدمه المذيعة القديرة عايدة الشرجبي مع المذيع الراحل عقيل الصريمي.

[2] سينما اللواء الأخضر : كانت دار السينما الوحيدة في مدينة إب لعقود قبل اغلاقها الكامل. و قد ساهمت هذه  السينما  في تشكيل مخيلة أجيال كما تكونت حولها مادة واسعة من التراث الشفاهي و الرمزي الذي لا يخلو من الطرافة .

[3] حُمادي القلِى و حمادي أبا نواس : شخصيات أسطورية شعبية تنسب إليها الكثير من الطرائف و القصص المشوقة، و لعلها تطورت عن شخصيات حقيقية عن طريق الرواية الشفاهية و المخيال الجمعي .

اظهر المزيد

صفوان الشويطر

باحث وكاتب يمني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى