ينهض صباحاً متحسساً أطراف جسده فيجد أنها ما زالت هي الشيء الوحيد الذي لم يفقده في هذه الحياة. يقف أمام مرآة الحمام ليلحظ شعرة بيضاء جديدة قد نبتت في فروة رأسه، يحتار أمام دولاب الملابس ليختار الحزن المناسب الذي سيرتديه اليوم.
يخرج من بيته متصنعاً ابتسامة ليحاول أن يخفي آثار الموت الجانبية، لكنه سرعان ما يعود إلى حالته الطبيعة عند رؤية أول طفلة تجري محاولة منها للحاق بخزان المياه قبل أن ينفد.
يعود من بيته حاملا بطيخة صغيرة ليفاجئ ابنه الذي حصل على درجة عالية في مادة الخط ،لكنه يتذكر الليلة السابقة التي خلت من وجبة العشاء فيعيد تلك البطيخة،ويأخذ بدلا منها بعض أرغفة الخبز، ويكتفي بشراء مصاصة حلوى ويضعهما في كيس بلاستيكي بجانب آهاته، يملؤه شعور بأنه طير في قفص، بلا منفعة، لكنه يريد أن يعثر على جدوى لحياته التي لا تستطيع تأمين ثمن بطيخة صغيرة.
يقضي بقية يومه مترنحاً، فيقرر فتح التلفاز محاولا أن يجد ما يقتل وقته فيشده مبلغ كبير من المال معروض أسفل الشاشة، وسرعان ما يعلم أنها مسابقة تحت عنوان (أجملناقة عربية) فيطفئ الشاشة مردداً ببطء وتمعن بعض اللعنات باللهجة الخليجية.
يبدأ الليل بسرد نجومه، فيأخذ ورقة من حقيبة ابنه المدرسية الرثة محتاراً عن أي شيء سيكتب، وبعد فترة طويلة يقرر كتابة مقال بعنوان ( حب الوطن ).
يستهل مقالته بالتحدث عن وطنه الذي ينعم الجميع بالرخاء تحت ظلاله، بينما تدور في مخيلته صورة تلك الطفلة التي رآها تهرول نحو خزان المياه في الصباح الباكر، ثم يردف قائلاً : بلادنا الحبيبة حباها الله بأرض زراعية تخرج أزكى أنواع الفواكه التي من الممكن ألا تكون موجودة بهذه الكثرة في بلدان أخرى، فما ألذ أن تعود من عملك المتعب وبيدك بطيخة تطفئ بها ظمأ الصيف مع أطفالك وزوجتك! وبينما هو جالس على كرسي الحمام أدخل المقالة جيبه بعد ان انتهى من صياغة اللمسات الأخيرة لها. صنبور المياه أصدر صوتاً ذكّره بصوت مداعة جدته القديمة وصوت صاحب ناقلة صهريج الماء (الوايت) الذي كاد أن يضربه مساء أمس بعصاه الغليظة لتراكم الديون عليه فيبتسم ناظراً إلى دلو المياه الفارغ وهو يخرج تلك الورقة قائلاً:
(أخيراً سأستفيد من حب الوطن بشيء ينفعني) بينما تحولت الابتسامة إلى ضحكة خفيفة.
يطفئ ضوء الحمام الخافت وهو يغمز لزوجته مما جعلها تنهض _ وهي تبادله نفس الغمزة_ لتجهيز فراش ولدها الصغير الذي أخذ مساحة من غرفة المعيشة، ومن عجلتها المفرطة نسيت ان تقرأ له قصة ما قبل النوم المعهودة واكتفت بقول (يله ارقد وانتبه تفتح غرفة النوم قبل ما تدق الباب) وتضيف قائلة من داخل غرفة النوم بصوت عالٍ (ولا تنساش تبكر الصبح تدي لنا ماء من السبيل) فيجيبها من تحت بطانيته الصغيرة بصوت يكاد أن يسمع (ناااهي) …
نهضت الأم على صوت زوجها وهو يتحدث بينما منشفتها الوردية موضوعة على كتفيه وكان أول ما سمعته هو (ولا يهمك يا سيدي، المقالة حقك جاهزة وكتبتها أمس وذهني صاااافي). فتذكرت والبهجة تغمرها ذلك المبلغ الذي وعد به مسؤول كبير زوجها عندما ينهي كتابة المقال. ( اليوم والمقالة على المكتب حقكم يا سيدي) هكذا ختم المكالمة وهو واضع يده على فم زوجته ليخفض من صوت قهقهتها التي لم تستطع كتمانها بعد أن علمت أن ( حمار كبير ) هو الاسم الذي اختاره زوجها لتسمية ذلك الشخص على هاتفه.
يعود بعد وقت الظهيرة إلى بيته حاملاً بطيخة كبيرة، وفي جيبه مقالة أخرى كان قد كتبها بينما هو على ساحة الانتظار لمكتبٍ ما وكان عنوانها.
( عندما يتحدث الحمار عن حب الوطن )
لكنه قرر أن يحتفظ بها لنفسه هذه المرة.
طاهر دبوان