This post is also available in: English (الإنجليزية)
ماذا لو عشنا طفولتنا في بيت تغطي جدرانه القطع الفنية والأثرية التي نجمعها من أماكن يمنية مختلفة قضينا فيها مصايفنا؟ ماذا لو عبرنا عن آرائنا في حياتنا الأسرية بمنتهى الديمقراطية؟ ماذا لو قضينا أمسياتنا كأسرة منكبة على الرسم على الزجاج والورق والخشب؟ كل هذا عاشته، ولا تزال، أسرة الفنان التشكيلي ياسين غالب.
ياسين غالب حسن مهندس معماري وفنان تشكيلي يمني من مدينة تعز. اقترن بعد حصوله على شهادة البكالوريوس من الاتحاد السوفييتي سابقاً بفضيلة الحامد التي تخرجت من قسم علم النفس بجامعة صنعاء ليشكلا معًا ظاهرة الأسرة الفنيّة المتفرّدة التي أنتجت الفن متجسدًا في أربعة أبناء ” سلمى، لميس، ليلى ومحمد”. هيأ الزوجان بيئة مناسبة ليمارس الجميع فيها ما لديه من هوايات وفنون بلا قيود أو حواجز. هذه البيئة لمستها يوم زرت بيتهم المعلّق في أحد أطراف صنعاء!
من الخارج يبدو بيت “آل غالب” مهيبا، غامضا، وغير مفهوم. تُفتح البوابة الحديدية لتجد نفسك وجهًا لوجه أمام منزلٍ مبني على شكل مضلع تساعي تحتضنه من الجهة اليسرى شجرة تين شوكي طاعنة في السن بينما تشرف الجهة اليمنى من المنزل على سفوح صنعاء.
حين فتح لنا الباب، بدا “مدين”، الحفيد الأول ذو الخمس سنوات على الأكثر. رحب بنا وقادنا إلى المجلس الذي تفترش الطريق إليه سجاجيد جلدية لا تشبه واحدة منها الأخرى. وفي حضرة الفنان ياسين غالب، جلسنا وحولنا عشرات القطع الفنيّة؛ لوحات ليلى القماشية، ورسم سلمى على الزجاج والخشب وشخابيط “ين” الصغير، كما ينطق اسمه. في هذا المنزل مدين أو” ين” له مساحته كالبالغين، يحصل على التقدير حين ينتهي من لوحة ما ويستلم مباشرة قطع قماشية وألوان جديدة ليبدأ بعمل جديد.
بعد حديث حبس عقارب الساعة عن الليل مع الأستاذة فضيلة، أو الخالة فضيلة، كما تفضل أن ندعوها، اكتشفنا أنها شغوفة بلون فني يختلف عن الألوان التي تميز أعمال باقي أفراد أسرتها الفنية. هي مولعة برسم مباني اليمن التراثية على القماش عن طريق التطريز. ومن بين بيوت صنعاء القديمة وناطحات سحاب شبام وخيلة بقشان في دوعن وغيرها من مباني اليمن الكثيرة أصرت أن نختار إحداها كهدية. جعلني دفء هديتها الفنية أنسى زمهرير ليل صنعاء.
إلى جانب ممارسته لأعماله الفنية الحرّة عمل الفنان والمهندس ياسين غالب في مشاريع معمارية وهندسية متعددة. فقد عمل في مشروع حصر المباني المتضررة من زلزال ١٩٨٢ في ذمار، ثم في الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية منذ منتصف الثمانينات وحتى هذه اللحظة. وطوال هذه السنوات كان يعامل العمارة على أنها فن وإلهام وتاريخ ومورد وهويّة لا مجرد مهنة؛ فتجده عارفًا بتفاصيل أحداث التاريخ اليمني القديم والحديث ومحللًا للشواهد الأثرية ومهتمًا بالغوص في أعماق العمارة اليمنية التي يحاول استيعابها كلها برحلاته الداخلية. رحل غالب مرات عديدة إلى حضرموت التي يهيم بفنونها المعمارية وكل تفاصيلها؛ فحضرموت تحتل مكانة خاصة في قلبه كونها المكان الذي تنحدر منه زوجته فضيلة الحامد، المرأة العظيمة التي قاسمته الحياة، كما يصفها والتي عملت كأخصائية اجتماعية لفترة من الزمن.
تمكّن الزوجان من غرس الفن في وعي الابن الوحيد لهما وبناتهما الثلاث. هما يريان أن أهم عامل ساهم في تنشئة الابن والبنات بهذا الشكل هو المساحة المتاحة في المنزل للحوار والتعبير عن الرأي بشكل غير مشروط. الجميع مسموح له أن يقول رأيه بكل وضوح فيما يتعلق بحياته الشخصية أو الأسرة ومناقشة أي قرار مهما كان بسيطاً أو مصيريًا. وقد كان لهذا دوره في كسر الحواجز المصطنعة التي يفرضها البناء الاجتماعي. انفتحت مخيلة البنات والابن على عوالم ابداعية وفكرية أضافت إلى شخصياتهم وفاعليتهم في الحياة. وهو الأمر الذي يفتقر إليه كثيرون من الأطفال في مجتمع يحبس المخيلات ويقيد الفكر.
في عام ١٩٨٨ بدأ الفنان ياسين غالب مسيرته الفنية بشكل جدي عقب انضمامه لجمعية الفنانين التشكيليين. حصل غالب على أول جائزة في مجاله عندما فاز بالمركز الثالث في المنتدى العربي للفنون التشكيلية والذي أقيم في صنعاء في تسعينات القرن الماضي. وبعدها توالت مشاركاته الداخلية والخارجية الأمر الذي أثر بشكل كبير على أطفاله وحفزهم على البدء في نشاطهم الفني؛ فحصلت الابنة الكبرى سلمى غالب على شهادة تقديرية لمشاركتها في معرض للأطفال في ليبيا عندما كان عمرها 12 سنة كما شارك شقيقها الأصغر محمد في معرض للأطفال في التاسعة من عمره، وفي مراحل متقدمة شاركت لميس وليلى وسلمى في معارض مختلفة، كما أقمن معارضهن الخاصة ضمن أنشطة “مؤسسة بيسمنت الثقافية” وشاركن في مشاريع ومسابقات مثل مشروع
“Yemen peace project”
ومسابقة ” بحر المواهب” وغيرها. يسعد غالب بهذه النشاطات؛ لأنها متباينة وتعبر عن كل منهن كفنانات منفردات. فمثلا في الوقت الذي تعتمد فيه سلمى على الرسم على الزجاج ضمن المدرسة الواقعية تتجه ليلى للقص والتخييط وتصنف رسمها ضمن المدرستين السريالية والتجريدية متأثرةً بوالدها إلى حد كبير. الأب الفنان، مع ذلك، لا يحب أن يصنف رسوماته ضمن مدرسة تشكيلية بعينها؛ بل يفضل أن يرتحل بحرية ودون قيود في إطار ما يسميه “اللامدرسة”.
في هذا الوضع المتأزم الذي تعيشه اليمن منذ ثماني سنوات من النزاع، والذي لا يمكن أن تنجو أسرة من أنيابه، أسرة غالب هي إحدى الأسر اليمنية التي طالتها تلك المعاناة. ففي السابق كان السياح يقبلون بشكل كبير على الأعمال الفنية خصوصًا تلك التي يبدع الفنان ياسين غالب في الدمج فيها بين الرسم التجريدي والتراث فيشترونها بتقدير جيد لثمنها مما يشكل مصدر دخل إضافي للأسرة ولياسين كفنان حتى يتمكن من توفير أدوات الرسم المعروفة بارتفاع أسعارها في اليمن. وعلى الرغم من كون الالتزامات الماديّة توزّعت على الأبناء الذين أصبحوا مستقلين بأعمالهم إلا أن الأسرة مثل آلاف الأسر اليمنية فقدت مصدراً مهماً من مصادر دخلها. تميل الأسرة منذ زمن إلى شراء الاثاث المحلي والتراثي مثل المسارج والسجاجيد والمطاحن والأبواب والنوافذ الخشبية وأواني الطبخ والقطع الأثرية لأنها تشعرهم بالانتماء إلى ربوع الوطن، على حد تعبيرهم.
وهذا يعني تكلفة زائدة فهذه الأشياء مرتفعة الأسعار. وهي، إلى ذلك، تحتاج إلى عناية وإصلاحات متكررة في معظم الأوقات. ومن الثمن المدفوع لهذا الشغف الفني والثقافي ما يتكلفه الأستاذ ياسين لإجراء الدراسات العلمية على المباني والآثار والتي تستلزم سفره وتنقله من مكان إلى آخر داخل البلاد. وهو يمول ذلك من عائدات أعماله في السابق.
اليوم كل ما يتمناه الفنان ياسين غالب وأسرته أن يحل السلام على اليمن وتنعم بتنوعها الثقافي ومدنيتها في ظل وجود الحكم الشوروي. وفي ذلك الوضع المنشود يمكن أن تزدهر الحياة الثقافية والفنية والسياحية وأن يتعود الناس في اليمن على احترام بعضهم البعض وتقبل اختلافهم وتقديره. كل هذه الأمنيات للوطن تسعى أسرة ياسين غالب الفنية إلى تحقيقها داخل المنزل الصغير لتبعث لأرجاء اليمن شعاعا نيرا يتشكل من ألوان الفن والحب والجمال.
عائشة الجعيدي، كاتبة وفاعلة ثقافية وناشطة شبابية في مجال السلام والتنمية.