This post is also available in: English (الإنجليزية)
“هل ولد الرجل عاجزاً بطبيعته عن القيام بأي من الأعمال المنزلية؟!”
تسأل أسماء هذا السؤال كلما استرجعت حياتها منذ لحظة ميلادها حتى اليوم. خمسة وثلاثون عاماً من الشقاء، بدأت منذ كانت في العاشرة من عمرها حيث تحملت أعباء الأعمال المنزلية كافة بعد وفاة والدتها. وكأن اليتم لم يكن كافياً، فقد حرمها أبوها من العطف و الحنان بصوره المعنوية والمادية، و لم تشعر يوماً بأن لها مكانة في أسرتها عدا عن كونها مجرد عاملة تقوم بأعمال منزلية مضنية منذ نعومة أظافرها.
كلّف والد أسماء ابنته بأعمال الطبخ وتنظيف المنزل وجلب المياه إلى جانب دراستها دون أن يقوم أي من إخوتها الذكور بأية مهمة منزلية؛ بل، أكثر من ذلك، كان والدها يعتدي عليها بالضرب في حال لم يلقَ طبخها إعجاب ضيوفه الكثر، أو إن لم تقم بخدمة إخوتها الذكور الذين رباهم على أن لا يحركوا ساكناً في المنزل، فالذكر بنظر أبيها لم يخلق حتى لصب الماء في كأسه حين يعطش وعلى أسماء تلبية كل طلباتهم في أي وقت دون نقاش. وفوق ذلك حُرِمت أسماء من أي مصروف شخصي طيلة حياتها في منزل الأسرة بينما كان الأب يغدق على أبنائه الذكور عطاياه المادية بحجة أنهم يحتاجون المال لأنشطة ترفيهية وكماليات لا يرى أن النساء، ومنهن الفتاة أسماء، يحتجنها كون وظيفتهن الوحيدة هي خدمة أفراد أسرتهن.
حياة أسماء لم تتغير بعد زواجها، بل تضاعفت الأعباء لتشمل العمل خارج المنزل في وظيفتها كمدرِّسة في إحدى المدارس الريفية إضافة إلى مهام المرأة الريفية من جلب المياه والحطب لمسافات طويلة ورعاية أطفالها الخمسة وزوجها وأسرته والاهتمام بمتطلبات الحياة في المنزل من أعمال الكنس والغسل و الطبخ ومباشرة من يحتاج الأكل ومن مرض ومن يريد السفر أو الخروج بالخدمة وتجهيز ما يحتاج.
ومع أن المجتمع الذكوري من حولها يتعامل معها على أنها آلة عمل وخدمة خالية من الفكر والمشاعر والوعي، فإنها تعي أن ما يحدث لها هو ظلم وتعدٍ على حقوقها. ترى أسماء أن على أفراد الأسرة كافة التعاون على القيام بالأعمال المختلفة بغض النظر عن جنسهم، ليشعر كل منهم بإنسانيته و تكافؤه مع الآخر و لتصبح الأسرة سكناً و ملجأ دافئاً من تعب الحياة، إلا أن الواقع الذي تعيشه يتعامل مع النساء كخادمات بدون أجر خلقن لخدمة الذكور الذين ينشئون منذ الصغر على أن العمل المنزلي ينتقص من مكانتهم كرجال، وهو الأمر الذي تراه أسماء في كيفية تعاطي الأسرة و المجتمع حين تحاول أن تساوي بين أبنائها الذكور الثلاثة و أختيهم في الحقوق و الواجبات داخل و خارج المنزل كي لا تتكرر دورة حياتها مع بناتها و أبنائها، إلا أن ما تزرعه في أطفالها من قيم تكافؤ و تعاون تقابل بسخرية و تنمر وانتقاص من أبنائها الذكور من قبل من يحيطون بهم.
تخشى أسماء أن يتعرّض أبناؤها الذكور إلى إقصاء من الحياة الاجتماعية طالما أنهم ينشئون وفقا لأفكار المساوة التي تزرعها فيهم. أما إذا تركتهم يندمجون مع المجتمع ويتبنون القيم والممارسات الذكورية التي تعيد إنتاج العلاقات غير المتكافئة بين الرجال والنساء من المهد إلى اللحد، فإنها تخشى أن يكرروا تجربة الذكور السابقين لهم من أسرتها الذين يعيشون حياتهم كلها يتلقون الخدمة من النساء، وفوق ذلك ينتقصون من قدْرِهن وكرامتهن.
التقسيم غير العادل للعمل لا يؤذي النساء فقط
إن مجرد محاولة النساء فتح باب النقاش حول مدى إمكانية حصولهن على بعض العون في أداء المهام المنزلية من أزواجهن أو أشقائهن أو أبنائهن الذكور، يعدّ، في عرف المجتمع، فعلاً مشيناً بل قد يعد تشكيكا في المسلمات الاجتماعية التي يمنع التشكيك فيها أو حتى عرضها للنقاش. والمعلوم أن مسألة تقسيم العمل وفق النوع الاجتماعي في اليمن هي من أساسيات ترسيخ السلطة الذكورية على النساء والتحكم بشتى تفاصيل حياتهن الاقتصادية والاجتماعية. ومن هنا، فإنَّ من شأن التشكيك في هذه السلطة أنْ يعرِّض النساء لأشكال مختلفة من العنف القائم على النوع الاجتماعي من عنف لفظي ونفسي وجسدي لا تردعه النصوص القانونية ولا الأعراف الاجتماعية، وفقا لما تذهب إليه استشارية النوع الاجتماعي وميض شاكر.
ولا يدرك المجتمع أن هذا العنف الذكوري المتمثل في تجريد المرأة من أي كينونة خارج أداء الأعمال المنزلية لا يؤذي النساء فحسب، بل يؤذي النساء والرجال معاً كون بناء الأسرة بهذا الشكل غير المتكافئ يولد لدى النساء أثاراً نفسية فادحة تؤثر على علاقاتهن بأنفسهن ومَنْ حولهن بما في ذلك أطفالهن الذين قد يصبحون أدوات لتفريغ الشعور بالظلم وقلة الحيلة من قبل أمهاتهم. وفي حالات أخرى ينتهي المطاف بالنساء إلى الشعور بالعجز الذي يدفعهن لأذية أنفسهن وغيرهن. وقد لاحظت ذلك الدكتورة والأخصائية النفسية نجلاء العفيف خلال سنوات عملها، تقول العفيف: ” الرجال أنفسهم لا يَسْلَمون من دائرة العنف هذه التي تعطيهم السلطة من جهة وتسلب منهم الكثير، دون أن يلحظوا ذلك، من جهة أخرى”.
إنَّ نظام تقسيم العمل هذا الذي يعامل النساء كعاملات منزليات بنظام السخرة هو نفس النظام الذي يختزل الرجل ويعامله كمصرف ومصدر للمال فقط لا كيان له ولا قيمة له دون امتلاكه للمال. فحين يمارس الرجال تسلطهم الذكوري على النساء، يقمن هن، في المقابل، بابتزاز الرجال مالياً وتحميلهم أعباء اقتصادية لا تنتهي، والمرأة في هذه الحال تأخذ دور العالة التي لا تجيد سوى الطبخ و التنظيف كرد فعل على هذه الأدوار الاجتماعية المكرسة في الأعراف وغير المنصفة للجنسين، كما تشرح الأكاديمية بجامعة عدن أروى الشميري.
المدينة ليست خيرا من الريف: خدمة خارج المنزل واستغلال وعنف داخله
حال النساء في المدينة ليس أفضل بكثير، ويكاد يكون مطابقاً لحال النساء الريفيات من حيث تقسيم العمل المنزلي، ففي حال عمل الزوجين، يعود الرجل إلى المنزل من وظيفته ليرتاح بينما تعود المرأة من وظيفتها لتسابق الزمن بين طبخ وتنظيف واهتمام بالأطفال وتدريسهم حتى يطوي الليل النهار في دائرة متصلة من العمل الذي لا ينتهي بالشكل الذي يجعل الحياة جحيماً كان يمكن تفاديه بالتعاون والتكافل داخل المنزل. هذا؛ مع أنَّ هؤلاء النساء العاملات يساهمن في توفير لقمة العيش لهن ولأفراد أسرهن إضافة إلى الأعمال المنزلية التي كانت ستكلف الكثير إذا ما تم الاستعانة بخدمة مدفوعة الأجر للقيام بها.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، فنحن نجد أن المجتمع اليمني الذي يطالب بوجود طبيبة امرأة لعلاج النساء ومدرسة امرأة لتعليم الفتيات، وفقا لعاداته وقيمه، هو نفسه من يقوم بوضع مصاعب لا نهاية لها في حياتها الشخصية تحول بينها و بين القيام بوظيفتها. ومع أن المجتمع اليمني، أيضا، يحتاج إلى النساء العاملات بشكل متزايد، صرح بذلك أم لم يصرح، لتحمل الأعباء الاقتصادية التي زادت الحرب من وطأتها، فإنه نفسه هو المجتمع الذي يحتقر المرأة العاملة ويعاملها بجشع و أنانية.
الدكتورة فاتن، طبيبة في السابعة والعشرين من عمرها، تعمل يومياً في مهنة يعدها المجتمع من أهم المهن خاصة في ظل الحرب التي نالت من القطاع الصحي بشكل كبير وجعلت عمل الطواقم الصحية غاية في الصعوبة. تعود الدكتورة فاتن يومياً من عمل يتطلب منها جهداً جسدياً و عقلياً و نفسياً منقطع النظير لتعد الغداء بمجرد وصولها إلى المنزل لتقدمه لزوجها العاطل عن العمل الذي يقضي جل ساعات النهار في النوم. تحاول الدكتورة فاتن يومياً تجهيز الغداء قبل استيقاظ زوجها، إلا أنها مؤخراً وجدت نفسها في قبضته حين استيقظ قبل أن تنهي إعداد الطعام، فقام بجرها من شعرها وضربها حتى أصاب يدها إصابة بالغة وصلت حد الكسر. حين لجأت إلى أهلها أوصدوا الباب أمامها وأيدوا موقف زوجها معللين ذلك بأن خدمته واجب لا نقاش فيه، وأنّها، إنْ قصرت في ذلك، فمن حقه أن يتزوج عليها بأخرى.
لا يختلف الرجل الأمي عن الرجل المتعلم وكذلك الريفي عن شقيقه في المدينة، إلا القليل النادر، فكل هذه الأصناف من الرجال ترى المرأة بنفس المنظار وفي الغالب يلجئون إلى العنف وإن اختلفت أنواعه ومخاطره. فالمرأة اليمنية التي تعيش في المدينة تخرج إلى العمل وتعود منهكة لتقوم بعمل المنزل؛ وحتى إنْ ساهمت في نفقات المنزل، فإنَّ عمل المنزل لا يسقط عنها؛ فهي امرأة وفقا للتعريف الاجتماعي التقليدي الراسخ حتى و إن أصبحت المرأة عاملة وفقا لشروط العصر الحديث.
عادات تتجاوز النصوص الشرعية
يرى الرجل في اليمن أنّ خدمته من واجبات المرأة التي أوكلت إليها من قِبَل المجتمع حتى مع عدم وجود أدلة تشريعية تجعل المرأة خادمة لزوجها. وهو مع إيمانه بالإسلام، فإنه لا يكلف نفسه عناء معرفة واجباته وحدود سلطته على الآخرين وفقا لما يؤمن به. وفي هذا السياق يذهب الفقهاء المسلمون إلى أن خدمة الزوج ليست واجبا عليها، وأن تقديمها الخدمة لزوجها هومن باب الرعاية والمودة وليست مفروضة على سبيل السخرة والاستعباد، ويقابل ذلك من طرف الزوج، وجوبا، بالنفقة والمسكن والعيش بمودة ومعروف؛ أي حب واحترام، وفقا للنصوص الشريعة.
وتذهب مدوّنات الفقه الإسلاميّ أبعد من ذلك حيث تورد أنّ للمرأة أن تطلب الأجر لقاء الإرضاع. وليس من واجبها، وفقا لتلك المدوّنات، خدمة أقارب الزوج ولا حتى أبويه، فالكل، من وجهة نظر الشريعة، مكلف بخدمة نفسه. ومن حيث المبدأ، فقد نهت النصوص الشرعية عن التفريق بين الذكر والأنثى في المعاملة، وساوت بينهما في الأعمال الصالحة، وفي تحمل تبعات أعمالهما إنْ خيرا أو شرّا. وفي إطار العلاقة مع العائلة جعلت الشريعة خدمة الأبوين واجبة على الذكر والأنثى، وما دون ذلك مما تقدمه المرأة فهو داخل في باب أعمال المعروف؛ أي البر والإحسان كإكرام الأخ أو الزوج وحسن العشرة التي تثاب عليها؛ وليس من باب الواجب، والرجل، على نفس المنوال، مطالب بعمل المعروف، ومن ذلك التواضع لأهله وخدمتهم ومساعدتهم بطريقة موازية لأعمال البر المطلوبة من المرأة، وهو يثاب على ذلك إنْ فعله.
العنف ضد المرأة بسبب التقسيم الجائر للعمل ودور المنظمات الحقوقية
على الرغم من غياب الإحصائيات الدقيقة التي ترصد عدد النساء المعنَّفات في اليمن، وتعذّر جمعها بشكل دقيق كون النساء يخشين إبلاغ الجهات المختصة من مراكز شرطة ومنظمات حقوقية لحمايتهن خوفا من الفضيحة- على الرغم من ذلك، فإنّ المختصين يؤكدون ارتفاع نسب العنف ضد النساء خاصة منذ بداية الحرب الراهنة. و إحدى و ليست آخر حوادث العنف الناتجة عن التقسيم غير العادل للعمل، هي تلك التي حدثت مؤخراً في محافظة إب حين قتل أخ أخته بدم بارد لاعتراضه على تقديم وجبة العشاء له لتلي تلك الجريمة تنازل الأسرة، أولياء الدم، عن دم ابنتهم ليعود القاتل لحياته و كأن شيئاً لم يكن.
تضطلع بعض المنظمات الحقوقية بدور مهم في مساندة المرأة اليمنية في حدود قدراتها على الوصول إلى النساء المعنفات وفق منهجية منظمة. فعلى سبيل المثال تشرح الأستاذة فوزية المريسي، وهي مديرة حالة، في “مشروع تحسين سبل العيش” النهج الذي يتبعه “اتحاد نساء اليمن” من أجل حماية المرأة المعنفة؛ تقول المريسي: ” تكون البداية بسماع قصة المرأة المعنية، ثم تحديد نوع العنف الذي تعرضت له. وعلى ضوء ذلك يُحدّد ما إذا كانت تحتاج لحماية قانونية، أو تدخل صحي، أو دعم نفسي، أو دعم اقتصادي، أو تمكين لمساحة آمنة، أو تُحوَّل إلى إحدى المنظمات الشريكة في حال كانت بحاجة إلى ذلك، كما يقوم الاتحاد بتقديم الحماية القانونية من خلال تبليغ مراكز الشرطة من أجل التعامل مع نوع العنف”.
نلاحظ في السنوات الأخيرة أن ثمة سعيا حثيثا لنساء يمنيات، وبمساندة من المنظمات الحقوقية، إلى حصولهن على الاستقلال والحرية والمساواة العادلة مع الرجل، وهي مساعي قد تؤتي ثمارها مستقبلا، رغم تكميم الأصوات والاضطهاد المجتمعي التي تلاقيه المرأة بهدف إجهاض حقها في العيش كإنسان يحيا حياة صحية ذات كرامة وجودة، ودون تعنيف وتمييز. فهل تستطيع المرأة اليمنية الانتصار؟ أم أنها ستظل ترزح تحت نير العنف والاضطهاد الذكوري جيلا بعد جيل؟