This post is also available in: English (الإنجليزية)
:مفتتح
في ذاكرة الشعر آلاف الأسماء، لكن قلةً قليلةً من تلك الأسماء ظلت تجسيداً حياً لمعنى الحرية، وظل شعرها حافلاً بجلال الكلمة وجمالها، وفي ذاكرة الثورة آلاف الثوّار؛ لكن ثوّاراً بعينهم منحوا الثورة معنى الإيثار والقناعة، وظلوا
:بعيدين عن عبادة الذات، بعيدين عن بريق السلطة، يصحبون الأيام بلا أي تهافتٍ
تتساءل الجدران بي وأنا بساحتها أطوفُ”
من ذلك الشبح الغريب وذلك الشيخ النحيفُ
الدار تنكرني ولكني لساكنها ألوفُ
“أشدو فتجهل أرضها شدوى وتلفظه السقوفُ
قبل أن يغادر الحضراني جسده في 2007م، عرفتُه قامةٌ مثقلة بثمانين عاما, ملامح خددها الزمن, وابتسامة لا تخبو، عينان ساهمتان في البعيد تكتنزان بالوضاءة, كانتْ تراه العينُ شيخاً طاعناً في السن, لكن مجالسته تنفي كل ذلك في لحظاتٍ معدودة, وتكشف عن روحٍ ثائرة وذاكرةٍ قوية, وخيالٍ مجنح, وإحساسٍ عميقٍ بالحياة، حلاوة حديثٍ لا تشبع الأسماع منه, ولا تتمنى أن ينتهي. وكأنه أوجز تعريفه لنفسه في هذه الأبيات الشعرية:
أنا ثورةٌ كبرى تلوحُ وتختفي”
أنا من أنا؟ أنا جذوةٌ لا تنطفي
أنا روحُ جبّارِ تئن حزينةً
تحت الإسار، وما لها من مُسعفِ
أنا أنّة المسكين تأخذُ حقه
كف الغني وما له من مُنصفِ
أنا خطرةُ الصوفي في محرابهِ
عظمتْ ففاضتْ عن نطاق الأحرفِ
لا الدهرُ يسعفني بما أهوى، ولا
“هذي الحياة بها فؤادي يكتفي
:في ميدان الثورة
رجلٌ من زمن النضال الوطني، توغل في الدفاع عن شعبه المثخن بالإمامة والفقر والجهل والمرض، وفي غمرة الجراح الكبرى نسي كل جراحاته الشخصية، والتحم بآلام وآمال شعبه، ورفع الصوت عالياً في وجه الطاغية:
أيها الظالم اتئدْ وعلى رأسك الوعيد”
لم تصنْ حق أمةٍ عشتَ في أهلها سعيد
“فلتزلْ عن طريقها ثم دعها وما تريد
عُرف في طليعة وجوه ثورة 1948م ضد حكم الإمامة, ، وبعد أن انتكست الثورة قضى سنواتٍ عجاف من عمره الأبي في سجن حجة الرهيب، وفي ذلك يقول:
ففي أمة منكوبة كان مولدي”
إليها نفى الله الشقاء و التوانيا
نشأتُ وما صدر إليه يضمني
يتيما بأحضان الشقا متراميا
وكم طفتُ في طول البلاد وعرضها
وقد أثقلوا بالقيد عنقي و ساقيا
سلوا ” حجة ” عني محا الله سجنها
وإن شاء بعد السجن دكَّ المبانيا
تعشقت فيها الموت بل صرتُ عاشقا
“وفيها تخيلتُ القبور غوانيا
كان القدر يرجئ عمره ليرى شيئاً مما نذر له العمر والكلمة, وقد حُفظ عنه كثيرٌ من شعر الرفض والاحتجاج والثورة مجاهراً برأيه:
إنما الماجد من لم يألُ للمجد طلابا”
“قلْ ولا تخشَ فما فاز امرؤ دارى وحابا
على أن أبرز ما حفظ عنه بيتين من الشعر أصبحا تميمة كل ثائرٍ يخرج إلى ساحة الإعدام، ويتذكرهما كل ناجٍ من ثوار 1948م، ويستعيدهما كل دارس للثورة اليمنية. بيتان من الشعر أملاهما التحدي و كتبتهما التضحية، تمثّل بهما وهو يجر قدمين داميتين في القيود، ويرفع هامته عالياً راثياُ نفسه متهيئاً لمصرعه، بين يدي “الوشاح” سياف الإمام:
كم تعذبتُ في سبيل بلادي وتعرضتُ للمنون مِرارا”
“وأنا اليوم في سبيلِ بلادي أدفعُ الروحَ راضياً مختارا
بيتان من الشعر كانتا خلاصة موقف الشاعر الثائر، و أوجع ما عبرّ به الشاعر إبراهيم الحضراني في لحظةٍ درامية واجه فيها شبح الموت، وكان على يقين تام أنها نهاية الجسد النحيل، لولا أن ذكرى علاقةٍ قديمة بين والد إبراهيم الحضراني و الإمام أحمد بن حميد الدين، تسللتْ إلى قلب الإمام السفاح، فآثر تأجيل حكم الإعدام، ليظل إبراهيم الحضراني رهينة تنكيل زبانية الإمام في سجن حجة الذي أكل من عمرَه وشعرَه سنين عجاف. وكما سجَّل في كل مرةٍ موقفه، ارتجلت التراجيديا في دمه شعراً، يلخص جدلية الموت والحياة في وعي المناضل:
حنانيك يا سيف المنية فارجعي و يا ظلة الموت الزؤام تقشّعي”
و والله ما خفتُ المنايا وهذه طلائعها مني بمرأى و مسمع
“و لكن حقاً في فؤادي لأمتي أخاف إذا ما متُ من موته معي
ظل الثوّار اليمنيون في هذه الحقبة الدامية من تاريخ اليمن المقهورـ ورغم ظل السيف الذي ظل مسلولاً للإطاحة بأعناقهم العصية على ذَهب الإمام أحمد ـ لا يترددون في العمل على مراكمة كل الشروط الموضوعية للثورة، وكان في طليعتهم إبراهيم الحضراني مردداً بوجه الشامتين بثورة الدستور:
لا تأملوا في أن يتمّ لغاشمٍ في الشعب حكمٌ أو يسود نظامُ”
ومراجل الأحرار تغلي نقمةً وبها إلى تلك الدماء أوامُ
“تالله أسكن فالسكون جريمةٌ لا أرتضيها والرضوخ حرامُ
أدرك إبراهيم أحمد الحضراني قوة الكلمة الحرة, وشاهد مصارع رفاقه، وقاسى السجن، ودفع الثمن غير هيّاب أكثر من مرة, وأعاد الكرة دون أن يبالي ببطش الأئمة:
دعْ كلَ قاصٍ في العباد ودانِ”
لا يثنينّك عن مرامك ثانِ
واحمله قلباً كالجحيم إذا سطا
تهتز منه فرائصُ الشيطانِ
ما لانتْ الدنيا ولا حدثانُها
إلا أمامَ عزائم الشجعانِ
هي مضغةٌ بين الضلوع خفوقُها
“ترتاعُ منه طوارقُ الحدثانِ
التصميم الفني بإذن من واعد المدحجي
:في مقام الرثاء
في سبيل الوطن، فقد الحضراني عدداً من رفاقه، وجاش قلبه الشاعر برثاءٍ حار، غلب عليه التفجع والشعور العميق بالأسى ـ ورثاء المظلوم هجاءٌ للظالم ـ ولأن الثوار قتلوا بسيف الطاغية بدت نبرة الرثاء مزيجاً من الحزن والاعتداد، مزيجاً من كبرياء الجريح، وغصة الفقد، وتجّسد مرثيته للرئيس” جمال جميل”، تلك المكابدة بوضوح؛ وهي تكاد أن تكون مرثيةً لليمن، ولذا حرص على أن يكون الحدث مناسبةً لاستنهاض همة اليمنيين:
حتّامَ؟ يا وطني أراك تضامُ وعلى أديمك تُعبد الأصنامُ؟”
وإلامَ يرتفع الطغاة ويعتلي عرش التتابع معشرٌ أقزامُ ؟
وتظل يا مهد الجدود ممزقاً بيد الخطوب تنوشك الأقدامُ ؟
حتّام؟ يمضي بالرزية والأسى عامٌ ويأتي بالفجيعة عامُ ؟!
اليوم بالزفرات عامٌ قد مضى ولّى تشيع نفسه الآثامُ
ولّى وقد طعن السعيدة طعنةً برجالها الأحرارِ لا تلتامُ
“شاهت وجوه الظالمين حياله وبدا الرئيس وثغره بسّامُ
و في مرثيةٍ أخرى، لصديق توفاه الله، ينصرف الحضراني من رثاء صاحبه إلى رثاء نفسه، والتفجع عليها، ويغوص على معنى الموت، في قلب معنى الصداقة:
أنا ميتٌ فمَنْ يقول رثائي بعدما غيّب الردى أصدقائي؟”
كيف أرثيهمو بشعري وإني لجديرٌ من بعدهم بالرثاء؟
“مثخنٌ كلما رمى الدهر سهماً وهوى واحدٌ تسيل دمائي
“…وكأنه يستحضر مالك ابن الريب وهو يقول: “تذكرتُ من يبكي عليَّ فلم أجد
ظل ابراهيم الحضراني بكبرياء الثائر يعيش حياته لحظةً بلحظة، ويستعيد في ذاكرته كل أصدقائه الذاهبين دامع القلب يكابر جراحه، و ينأى بوجعه عن الشكوى، ولسان حاله:
ليس ينفك حزيناً موجعاً”
يصحب الأيام بالجرح العميقْ
وحّدته في الورى أشجانه
فهو في وادٍ من الشجو سحيقْ
حيث لا موجدةٌ من ناقمٍ
.”تبلغ الشكوى، ولا نجوى صديقْ
:في مهب النكران
على الرغم من كون الحضراني أحد أبرز رموز الثورة اليمنية, إلا إنه عاش بسيطاً بعيداً عن الأضواء, لم يلهث وراء المناصب ولم يدخل في أي معركة لاقتسام الغنائم بعد نجاح ثورة1962م، واكتفى من نضاله لأجل الحرية أن يقول الشعرَ تأمّلاً في أحلامٍ تتلاشى، ورفاقٍ على قيد الحياة أداروا له ظهورهم، وتمادوا في النكران:
الندامى و أين مني الندامى؟! ذهبوا يمنةً، وسرتُ شآما”
يا أحبائنا تنكّر دهرٌ كان بالأمس ثغره بّساما
ما عليكم في هجرنا من ملامٍ قد حملنا عن الليالي الملاما
وطوينا على الجراح قلوباً دميتْ لوعةً، وذابت ضراما
سوف يدري من ضيع العهدَ أنّا منه أسمى نفساً وأوفى ذِماما
نحن من لقّنَ الحمام فغنّى ومن الشوق عطّر الأنساما
والندى في الرياض فيض دموعٍ لعيون أبت لنا أن تناما
قد بذلنا النفيسَ من كل شيءٍ فجنينا الأحلام و الأوهاما
“نبتدي حيث ننتهي ما بلغنا من مرامٍ, ولا شفيْنا أُواما
وعلى كثرة ما قاله الحضراني من الشعر في كثير من المناسبات والأحداث والمواقف والأغراض, لم يلتفت لجمع شعره، كما لم يلتفت لأي شيءٍ شخصيٍ في حياته، واختار أن يظل راويةً لقلبه بحسب ما يقتضيه الحال إنْ حكى لمحبيه، أو شارك في مناسبة ثقافية أو هنا وهناك. وكما كان يُطرف مُجالسيه بما يختار لهم من ذاكرته التي لا تعرف الكلل، كان يُطرب السامعين بإلقائه المميز للشعر، فتدور بالرؤوس نشوة البيان، ويرتد شاباً مضيئاً، مشرق العبارة.
:في سياق الحب
:كما كتب الحضراني باسم الوطن، وغضب له، وتغنى به، كتب للحب، وجاهر به، وتغزل بالأنثى، وعبّر بنبرةٍ خفيفة الظل عن معاناته
لو أنني قد ذكرتُ الله مجتهداً”
كما ذكرتك يا فتّانة النظرِ
لكنت أعظم خلق الله منزلةً
“وكنت أعظم مبعوثٍ إلى البشرٍ
وفي شعر الحضراني رنة حزن تستبطن اغترابه النفسي، وشعوره العميق بالمرارة، حتى وهو يهرب إلى الحب، و يخلع عنه تحدي الثائر وجَلد المناضل:
يا مَن أذبتِ فؤادي في هواك وما”
منيتُ إلا بإبعادٍ و حرمانِ
حتى ذوى زهر آمالي وأعقب لي
بين الجوانح آلامي و أحزاني
أهذه هي أيام الصبا وإلى
رجوعها يتمنى العاجز العاني؟
ماذا سوى أنّة حرّى يكاد بها
قلبي يذوب وجفني دمعه قانِ ؟
هذا هو الحب ما ينفك يخلق لي
عوالماّ ذات أشكالٍ وألوان
دنيا وعالم أشجانٍ أعيش به
“وحدي وللناس حولي عالمٌ ثانِ
وفي مجال الأغنية اتخذ الحب ولوعته مدخلاً للتعبير عن نظرته للحياة، وخبرته بها، كما في أغنية: ” يا قلب كم سرك لقاء الحبيب”، و أغنية ” لا عتب لا عتب” وفيها حكمته الخالدة:” والصحيح الصحيح، الكل قابض على ريح”.
و أشعاره المُغناة، نسخة أخرى من تأملاته وعشقه للوطن، و في أغنية ” لقاء الأحبة”، كتب الحضراني سيناريو الوحدة اليمنية، بعيداً عن الشعارات والهتافات، وقدّم شكلاً آخر للأغنية الوطنية، كسر به النمط المعتاد في التعبير المباشر والتغني بالذات التاريخية، لتصبح كلماته بصوت الفنان أيوب طارش إحاطة العارف بجوهر المعنى و روح الطبيعة:
عانقي يا جبال ريمه شماريخ شمسان”
وانت يا وادي القرية تفسّح ببيحان
قالوا الأمس في صعده حصل حفل طنان
والتقينا الجميع في عرس حسناء وحسان
“والتقى الآنسي والمرشدي و القمندان