النساء والنوع الاجتماعيثقافة

النسخة العربية من كتاب “كنت طبيبة في اليمن” لكلودي فايان: ملاحظات بخصوص الخيانة في الترجمة (1)

زارت كلودي فايان (1912-2002) اليمن أول زيارة في يناير 1951 في زيارة طبية وعادت فرنسا منتصف 1952. لقد حاولت الهروب من ضغوط الحياة والانغماس في دراسة الأنثروبولوجيا، وستصارح صحفيًا فيما بعد أن كلود ليفي شتراوس مؤسس علم الأنثروبولوجيا هو من شجعها على المغامرة والسفر إلى اليمن للكتابة حول الإنسان اليمني[1]. تقدمت إلى وزارة الخارجية اليمنية في يناير 1950. وكانت المتقدمة الوحيدة لشغل وظيفة طبيب في شمال اليمن آنذاك.

رغم أن الراتب كان ضئيلاً دون امتيازات أخرى او استشارات طبية خاصة، إلا أنها أقدمت على هذه التجربة والمغامرة والسفر إلى المجهول. “لا بد أن يكون الإنسان مجنونًا أو على الأقل باحثًا في السلالات البشرية”[2] كي يقبل العمل في اليمن في تلك الفترة.

الكتاب والترجمة

عادت فايان إلى فرنسا وألفت كتابها الشهير “Une française médecin au Yémen”، ونُشر عام 1955 في دار جوليار في باريس. وترجمه إلى العربية الأستاذ محسن العيني بعنوان ” كنت طبيبة في اليمن”.

الأستاذ محسن العيني (1932-2021)، سياسي يمني، كان ضمن بعثة الأربعين الشهيرة، أول بعثة دراسية في عهد الإمام يحيى، تولى منصب وزير الخارجية في أول حكومة بعد ثورة 1962، وتولى رئاسة الوزراء فيما بعد خمس مرات آخرها عام 1974.

التقى الأستاذ العيني، الذي كان طالبًا في فرنسا، بكلودي فايان عام 1956 حينما كانت تلقي محاضرات عن اليمن وتقدم كتابها. فتشجع وأقدم على ترجمته رغم “عدم تمكنه من اللغة الفرنسية”[3]. لكن تسهلت مهمته لأنه يعرف ظروف الحياة اليمنية. انتهى من ترجمته عام 1958، ولم ينشره إلا عام 1960. غير محسن العيني العنوان إلى “كنت طبيبة في اليمن” مع أن ترجمته الدقيقة “طبيبة فرنسية في اليمن”؛ وبذلك فقد أضاف العيني الطابع الحكائي للعنوان وهو أمر متاح في ترجمة العناوين لما فيه من شد للقارئ العربي.

طبعات متعددة

نال الكتاب شهرة واسعة جدًا في العالم العربي، وخلال أقل من عامين طبع 3 طبعات وقدم لطبعته الثالثة عام 1962 محمد محمود الزبيري. وتُرجم الكتاب إلى لغات أوربية عديدة لأنه كان من أهم الكتب التي تناولت خفايا هذا البلد المجهول لدى القارئ الغربي.

زارت كلودي فايان اليمن فيما بعد زيارات عدة منذ منتصف الستينيات. ألفت عام 1971 كتابها الثاني، “بلاد اليمن”، ثم كتابها الثالث، “حياة النساء في اليمن”، الذي قمنا بترجمته ونُشر عام 2008. وأسست المتحف الوطني في صنعاء عام 1971، كما قدمت دراسات اثنوغرافية وانثروبولوجية عدة لصالح المركز الوطني للأبحاث العلمية، (CNRS) في فرنسا[4]. وتكريمًا لها من اليمن مُنحت الجنسية اليمنية عام 1991، وتوفت في فرنسا عام 2001، عن عمر 93 سنة.

طُبع الكتاب طبعات كثيرة، في أكثر من دار نشر، اولها عام 1960، وآخرها طبعة وزارة الثقافة والسياحة في صنعاء 2004، التي صدرت باللغتين، العربية والفرنسية. وتتيح هذه النسخة للفرانكفونيين مقارنة الترجمة مع الأصل.

خيانات الترجمة: الآثمة والمستحبة والضرورية

منذ بدايات دراسات الترجمة ارتبط مفهوم الخيانة بالترجمة، وتنتقص هذه التهمة من مهمة المترجم، وتحوله إلى متهم حتى تثبت براءته. لكن ليست كل خيانة، خيانة حقيقية. فهناك “خيانة” النصوص التي لا تترجم، كالنصوص المقدسة أو الشعر لأنها ارتبطت بلغاتها الأصلية وموسيقاها الداخلية التي تضيع مع نقل المفردات ورصها في اللغات الأخرى. بيت امرئ القيس الشهير، “مكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معا** كجلمود صخر حطه السيل من عليِ”، مثال يستحيل ترجمته بنفس الإيقاعات الصوتية، وجرس الأحرف، ووقعها على المتلقي. وبالإمكان القياس على القرآن الذي يكتب على غلاف ترجماته إلى اللغات الأخرى بأنها “ترجمة لمعانيه” وليست ترجمة له.

وهناك الخيانة الإجبارية أو الواجبة أو حتى الخيانة “المستحبة” حين يختلف المتلقي، كترجمة الألفاظ البذيئة في الأفلام، أو الترجمات الموجهة للأطفال. كما أن هناك “الخطأ” كأن يخطئ المترجم في نقل الكلمة دون عمد أو أن يخطئ في نقل اسم مكان أو شخص، أو حتى أن يؤول الجملة بطريقة خاطئة، ينتج عنها ترجمة خاطئة. هنا لا توجد نية العمد في الخيانة. وبإمكاننا تسميتها “خطأ” وليس “خيانة”. وبالمقابل هناك الخيانة الحقيقية، التي يقترفها المترجم، لتغيير الحقيقة أو للتأثير على رأي المتلقي. وهي هنا محور موضوعنا.

العمل الفني لأماني باحشوان

خيانة الترجمة في كتاب كنت طبيبة في اليمن

حذفُ صفحات من الكتاب الأصلي وقت ترجمته خيانة شائعة بين المترجمين منذ بداية حركة الترجمة في العصر العباسي، ويعتبر البعض بأنها ليست خيانة، لأنها لا تغير في أفكار الموضوع الأصلي. ولكن مع كتاب “كنت طبيبة في اليمن” فالموضوع مختلف، حيث لم يترك المترجم صفحات أو فقرات في الترجمة إلا وقد غير موضوعها بشكل يخالف حقيقة النص الأصلي. ترك المترجم قصصًا كاملة، أو اجتزأ بعضها من السياق، بل ووصل به الحال أن يترجم بعض الكلمات بترجمات مختلفة، ورغم ضآلة هذه الخيانة الأخيرة إلا أنها تظل خيانة صريحة أدت إلى تغيير المعنى؛ وهذا، بطبيعة الحال، له أثر سلبي على فهم القارئ ورد فعله تجاه الكتاب.

وفي تتبعنا للفقرات التي أهملها المترجم أو غيّر فيها المعنى الأصلي للنص الفرنسي، حاولنا استقراء الأسباب التي دعت المترجم العيني إلى تركها، ووجدنا أنها تتوزع إلى أسباب اجتماعية وسياسية ودينية. ولن نستطيع في هذه الدراسة عرض كل الفقرات، ولكننا سنتناول هنا بعض الأمثلة.

أسباب اجتماعية

“كنت طبيبة في اليمن” هو في الأصل دراسة اثنوغرافية وانثروبولوجية وبالتالي فإن عناصر الحياة الاجتماعية التي ترويها فايان هي في صلب موضوع الكتاب فكل تفاصيله بما فيها لقاءاتها عام 1952 مع الإمام أحمد حميد الدين، أو الأمراء تقترب من الجانب الاجتماعي أكثر من الجانب السياسي.

وقد أوردت المؤلفة الكثير من الحكايات البسيطة من المجتمع اليمني. حكايات لنساء ورجال وأطفال تعرفت عليهم والتقت بهم في عدة مدن يمنية. ولأنها مهتمة بالانثروبولوجيا والاثنوغرافيا فقد استهوتها وشد انتباهها حياة الناس وثقافتهم وأفكارهم. لذلك أوردت لها فصلين، الأول اسمه بالفرنسية “vingt histoirs vrais” ، وترجمته الدقيقة “عشرون قصة حقيقية”. وسنورد ترجمتنا لهذا الفصل في مقال منفصل يلي هذا المقال.

لم يترجم العيني من هذه القصص العشرين إلا إحدى عشرة قصة وجعل اسم الفصل “قصص من كل لون”. تتميز قصص هذا الفصل بكونها ذات مضمون اجتماعي صرف، ولا تظهر فيها أي خلفيات دينية أو سياسية، وحتى عندما تناولت المؤلفة في إحدى القصص حكاية الأمراء مع الشعب، فقد تناولتها من جانب الشعب أكثر منها حكايات للأمراء.

حكت كلودي فايان في هذه القصص التي لم يترجمها العيني عن ذهابها إلى الحمام التركي واكتشافها لطقوس النساء هناك. وحكت أيضاً عن لقائها بيهودي من آخر اليهود المتهيئين للمغادرة إلى فلسطين وعن فتاة سودانية أتت مع أفراد قريتها إلى اليمن مرورًا إلى مكة للحج وعن زيارتها إلى قرية كبس بالقرب من صنعاء وعن الحب وصور الغزل السائدة آنذاك. وقد ترجمنا بعض هذه القصص التي تتوزع مواضيعها بين الحياة اليومية للمرأة واليهود وعلاقة الناس بالأمراء وحتى بعض لقاءاتها العابرة مع الناس بتفاصيل تنم على حياة الانسان اليمني في ذلك العصر، سننشرها في المقال المنفصل الذي أشرنا إليه آنفاً.

لم يكتف المترجم العيني بحذف قصص بأكملها في هذا الفصل، ولكنه أيضًا بتر أغلب الحكايات، فكان يحذف بعض الفقرات أو الصفحات من كل حكاية، كما فعل مع حكاية الأميرة بدر الدين، زوجة الإمام أحمد التي تزوجها ولم يقابلها، فعاشت في صنعاء وعاش هو في تعز، والتي تناولتها المؤلفة في ست صفحات ولم يترجم المترجم منها إلا صفحتين تقريبًا.

وقد تناولت المؤلفة في حكاية الأميرة بدر الدين جوانب كثيرة من حياتها وحياة الأميرات التي يزرنها، كونها كانت تنظم جلسات نسائية تتم في المفرج، الذي وصفت المؤلفة جماله وأناقة أثاثه، بوسائده ومفارشه. كما وصفت تنافس الأميرات في ملابسهن، ومجوهراتهن، وبأن موضة المجوهرات السائدة في تلك الفترة تغيرت من مجوهرات الصاغة اليهود، إلى مجوهرات قادمة من الهند ومن عدن.  تقول المؤلفة: “ونساء الطبقات العليا يمتنعن عن عادة خضاب اليدين كونهن يعتبرنها ممارسة شعبية لطبقات أدنى منهن”[1].

تناولت المؤلفة أيضًا تفاصيل كثيرة من حياة نساء الطبقات العليا، من ملابس وغناء ورقص وإعجاب الأميرات بالأغاني الفرنسية التي كانت تغنيها فايان، ولا سيما أغنية ” Pierre de Grenoble“، بلحنها الحزين المشابه بعض الشيء لبعض الألحان اليمنية. هي أغنية حزينة عن الشاب “بيير من مدينة غرونوبل” الذي ترك حبيبته وذهب إلى الحرب لمدة سبع سنوات، عاد وقد ماتت وهم يشيعونها، فقبلها قبلتين ثم مات. ثم تناولت المؤلفة سهراتها مع بدر الدين وحاشيتها في القصر في الصيف وفي رمضان في تفاصيل كثيرة.

في الفصل الآخر المخصص للحياة الاجتماعية، الموسوم “الحياة العائلية”. ترك المترجم حوالي ثلاث صفحات قبل أن يبدأ الفصل الذي يدور حول الأطفال والدراسة. لقد بدأت المؤلفة الفصل بهذه الجملة: “وبحسب القواعد الاثنوغرافية السليمة، سننهي هذا الباب من الكتاب بهذه الدراسة عن صنعاء، بتتبع حياة شخص صنعاني من الطبقة المتوسطة، منذ ولادته حتى وفاته.”[2] تؤكد هذه الجملة التي أسقطها المترجم توجه المؤلفة الإثنوغرافي، الذي من أجله ألفت الكتاب.

وقد تناولت في الصفحات الثلاث التي ألغاها المترجم نساء صنعاء وصفاتهن، فهن على حد تعبيرها “رشيقات وناعمات”[3]. وتناولت حالات الحمل والطلاق، وملابس النساء وقت الحمل والولادة، ثم ماذا يُلبِسون الطفل بعد الولادة، وأين يضعونه وكيف يرتبون مكانًا له جوار أمه. ثم طقوس احتفالات النساء بالولادة “التفرطة” التي تستمر أربعين يوما. تحدثت عن الأطفال ونشأتهم، فالأولاد الصغار لا يفضلون البقاء بالقرب من النساء، ولكنهم يذهبون مع آبائهم إلى أعمالهم، أو يلعبون في الشارع.

بعد هذه الصفحات الثلاث، تكمل المؤلفة عن دخول الأطفال إلى المدارس، ومن هنا بدأ المترجم الفصل. وقد حرم القارئ العربي من وصفٍ رائع للحياة اليومية لليمنيين منذ ما قبل الحمل مرورًا بالحمل والولادة وما بعدها. وحذف المترجم فقرات عدة من هذا الفصل الذي يتتبع حياة الإنسان منذ ولادته حتى مماته. وفيما يخص مماته فقد ختمت الفصل عن الموت وطقوس الجنازة والقبر، ولم يترجمها الأستاذ العيني.

لاهتمامها بحياة النساء اليمنيات نشرت كلودي فايان فيما بعد عام 1991 كتاب “حياة النساء في اليمن، حكايا صديقتي فرانس هوس” والذي خصصته للمرأة فقط. ولم تذكر فيه قصة من القصص التي كتبتها في كتابها “كنت طبيبة في اليمن”.

في الفصل “مهمات خارج صنعاء”[5] عن زيارتها لذمار، تناولت المؤلفة فيما يتجاوز الصفحتين لقاءها بعامل ذمار ثم لقاءها بابنه “أحمد” وعن نظراته وغمزاته وطلبه منها أن تنام معه ورفضها له[6]. قفز المترجم من على هذه الصفحات ولم يشر إليها ولكن سقط منه سهوًا ذكر انتقام أحمد منها لرفضه “واستعد أحمد للثأر”[7] حين أخبرها بأن السيارة معطلة وبأن عليها أن تختار حصانًا لتتنقل به. واختار لها أحمد حصانً عصبيًا، وكما تضيف: “ولم يكتفوا، بل خصصوا لي بجانب الحصان أكره عسكري قد عرفته…”[8].

كما لم يترجم المترجم في الفصل اللاحق “ضواحي ذمار” مضايقات أحمد لها كمحاولة تنفيرها من الطعام عبر تناوله بطريقة مقززة ورفضه أي دعوة من شخصيات ذمار التي كانت فايان تدعوها مرارًا، تقول: “تأكدتُ بأن حريتي في ذمار محدودة”[9]. وقد سقط من الترجمة ذكر سائقها الذي التقته في تعز وأصبح صديقها: “وله أدين بنجاتي من إقامة تشبه الأسر في ذمار.”[10]. وهنا سيقع القارئ للنسخة العربية في حيرة في كل ما سبق، لماذا سيثأر أحمد؟ ما الذي بينهما حتى يعاملها بهذه المعاملة القاسية؟ لماذا شبهت إقامتها في ذمار كالأسير؟ الجواب هو أن المترجم، كما أشرنا، قد ترجم فقرات لا يمكن فهمها دون تلك الفقرات التي حُذفت.

ألغى المترجم فقرات في كل فصل يتناول الحياة اليومية في اليمن بجوانبها الاجتماعية. ففي الفصل “عامٌ في صنعاء” أسقط المترجم ما يقرب من صفحة، تناولت المؤلفة فيها رمضان وطقوسه، ومن ذلك كيف كان يمشي المسحراتي ليوقظ جيرانها وحينما يمر بالقرب من دارها يصمت ثم يعاود الصياح بصوت عالٍ في مكان أبعد. ثم تناولت العيد الصغير وصلاة العيد ووصفت المصلى[11].

وفي فقرات لاحقة، تناولت عيد الأضحى وطقوسه ورقصات الناس فيه واحتفال الغدير بعد أيام من العيد. وبعدها بأيام عودة الحجاج من مكة. وبعدها بأشهر جاءت ذكرى المولد النبوي ووصفته بأنه عيد أقل أهمية من العيدين الصغير والكبير، والاحتفال به يقتصر على الجامع الكبير أو “الجامعة القرآنية” كما أسمتها[12].

وفي فصل آخر بعنوان “استعراضات صغيرة ومشهد مفجع” وصفت فايان الحياة اليومية في تعز، ذكرت أنها لم تحب تعز لكثرة من أسمتهم بـ”الفضوليين” ووصفت أطفال المدينة بـ”المتسولين والمزعجين ودائمي البكاء”[13]. وعلى الرغم من أن رأيها فيه تعالٍ وإجحاف بحق تعز وأهلها، فقد كان يتوجب على المترجم أن يترجم بأمانة ما كتبته، ثم يذكر في الهامش رأيه الشخصي.  وكان سيكون في ذلك خير للقارئ حتى يطلع على صورة المجتمع اليمني عند هذه المؤلفة بصورة حقيقية. أما هذا الاسقاط لهذه الفقرات، فمن شأنه أن يجعل القارئ اليمني يعتقد أن صورة المجتمع اليمني في هذا الكتاب كانت كلياً جميلة وبراقة. وهكذا غش المترجمُ القارئ العربي وقدم صورة مختلفة عن المجتمع اليمني. أما قارئ النص الفرنسي الأصلي أو ترجماته باللغات الأوروبية الأخرى فسيكون قادرا على معرفة صورة المجتمع اليمني بسلبياته وإيجابياته.

وضمن ما تناولته في نسختها الفرنسية في هذا الفصل يأتي وصف المقبرة في مدينة تعز التي ترى أنها لا تشبه المقابر في فرنسا، المرتبة والمضاءة والمليئة بالتذكارات، والمحاطة بسور، لكن “العقيدة الإسلامية بعيدة عن كل هذه التفاصيل”.[14] بشكل عام يمكن القول بشكل عام أن أكثر ما تم حذفه من الكتاب كان المتعلق بالجوانب الاجتماعية والثقافية للمجتمع اليمني آنذاك ولا يسعنا هنا إيرادها جميعًا بل اكتفينا بالأمثلة السابقة.

العمل الفني لأماني باحشوان

أسباب سياسية

من الخلفية السياسية للأستاذ محسن العيني، يتضح لنا موقفه من نظام الحكم في اليمن في الخمسينيات. فتاريخه السياسي كان شاهدًا على معاركه السياسية ضد الحكم الإمامي. وقد نشر كتابه الأول “معارك ومؤامرات ضد قضية اليمن” عام 1957، معلنا بوضوح معركته في صف الحركة الوطنية، وبعدها بعام بدأ ترجمة كتاب “كنت طبيبة في اليمن”.

لقد كان العيني مؤلفًا سياسيًا، ولم يكن مؤلفًا اجتماعيًا أو مترجمًا، ولم يترجم غير هذا الكتاب. ولم ينشر إلا كتابه السابق عن القضية اليمنية، وكتابه اللاحق، مذكراته السياسية “خمسون عامًا في الرمال المتحركة” عام 1999. بمعنى أن مسيرته العملية كانت سياسية بامتياز، ومسيرته الكتابية أيضًا كانت سياسية. لذلك أقدم على ترجمة الكتاب وتوظيفه توظيفًا سياسيًا.

قام العيني بحذف فقرات كانت المؤلفة تظهر فيها جوانب إيجابية للإمام أو الأمراء. وهنا يأتي السؤال المهم، هل تبيح القضية السياسية، حتى ولو كانت نبيلة، خيانة الترجمة وحذف المقاطع التي تصف الحاكم “الطاغية” وصفًا إيجابيًا؟ لا يوجد أي مبرر لخيانة الترجمة، وخصوصًا مع كتابٍ أصبح فيما بعد مرجعاً مهماً للباحثين والمهتمين بالشأن اليمني بكل جوانبه.

تناولت فايان زيارتها الأولى لمستشفى تعز مع الدكتور “ريبوليه” وانتهى الفصل في صيغته العربية بوصف أن المستشفى كان يعاني من شح في الأدوية، وبذكر مخطط المستشفى الذي كان يتابعه الدكتور ريبوليه ومات دون أن يتم تشييده.[15] لكن في النسخة الفرنسية أضافت المؤلفة “ملاحظة: “عام 1954، يعمل المستشفى الجديد الذي يضم طبيبًا فرنسيًا بصورة جيدة وتتوفر فيه الأدوية”.[16]

حرص المترجم على أن يقدم الجانب السيء من الصورة عن الوضع الصحي ولم يقدم التحسن الذي حصل بعد زيارة كلودي فايان عام 1951، وأوردته هي للأمانة العلمية بأنه بعد مغادرتها بثلاث سنوات تحسن الوضع الصحي في تعز. كما ذكرت في النسخة الفرنسية أن مستشفى صنعاء به “ثلاثمائة سرير”[17]، ولم يذكرها المترجم. كما لم يذكر أن صيدلية مستشفى صنعاء كانت “مجانية للفقراء”[18].

تناول الكتاب في صيغته العربية صعوبة استعمال المعمل، وكيف استغلت المؤلفة مرض أحد الأمراء الأطفال في فتح المعمل لها: “ولما كانت المسألة تتعلق بالأمير، فقد تلاشت الصعوبات بمعجزة، وأخبروني أن المعمل تحت تصرفي في اليوم التالي.”[19] ولكنهم رفضوا إتاحة العمل لها بشكل دائم، بل من أجل فحص “بول الأمير” فقط. ما جعلها تضيف السكر إلى البول وتؤكد لهم أنها بحاجة المعمل لأيام للاطمئنان على صحة الأمير، فوافقوا. ووضعوا الميكروسكوب تحت تصرفها. وبعد أيام أعلنتْ أن الأمير الصغير بخير.

انتهت الحكاية هنا في نسختها العربية وهي تصور لنا مساوئ الإدارة الحاكمة للمستشفى وهو أمر واضح بالفعل، ولكن المترجم قفز من على جملة تختم هذه الفقرة. “أما نائب الإمام الأمير الحسن فعندما عاد إلى صنعاء، قرر إعطائي مفاتيح المعمل بشكل نهائي”. وهكذا لم يذكر المترجم تجاوب الأمير الحسن مع المؤلفة.

في فصل بعنوان “عام في صنعاء” تناولت المؤلفة موقف أحد الأمراء الغاضب منها وقوله لها: “إذا مرض الأمير فعلى المدينة كلها أن تنتظر”[20]، وقد اشتكى للإمام وما لم يذكره المترجم هو أن الإمام “الذي عرف بدقة بكل تفاصيل ما حدث، أجاب بأنني لا يجب أن أُعاقب، بل أن يشكروني ويهنئوني. ولم تكن هذه هي الحادثة الوحيدة التي أرى فيها الإمام يتفهم، أفضل من الأعيان […] ومنذ ذلك اليوم، لم يعد يزعجني أحد”.[21] وبعدها بدأت الفقرة الجديدة في النسخة العربية بعبارة “وعلى كل مر العام بسلام”[22] والحقيقة أن الترجمة الحقيقية للجملة كانت “وبفضل الحماية الملكية، مر العام بسلام”.[23]

أوردت فايان حكاية الإمام مع المهرج الذي كانوا يغطسونه في بئر ويرفعونه لإضحاك الإمام وكان يصرخ وهم يضحكون حتى مات[24]. انتهت الحكاية هنا في نسختها العربية وحذفت جملة من الفرنسية “أسف الإمام على ذلك وصام 15 يومًا ولم يعبث مع أي مهرج فيما بعد”[25].

في زيارتها إلى مناخة التقت “بنشاد” وصفت أغانيه وآخرها عن “اغتيال الإمام يحيى”[26]. في هذا السياق حذف المترجم فقرتين تناولت فيهما هذه الأغنية عن الإمام يحيى “التي تُغنى في جميع أنحاء البلاد… واحترام الجميع له لحياته البسيطة”. كما تناولت الأغنية ولحنها الحزين الذي يتصاعد من بداية الأحداث حتى نهاية الأغنية المأساوية بمقتل الإمام يحيى.

أسباب دينية

تتكرر خيانة الترجمة إلى اللغة العربية كذلك لأسباب الدينية، فآراء غير المسلمين عن الإسلام أو النبي محمد لطالما كانت إشكالية تواجه المترجمين منذ بداية الترجمة في العصر الحديث. كانت آراء المؤلفة كلودي فايان واضحة في كتابها فيما يخص الدين ولم يترجم المؤلف أيًا من آرائها التي على الأرجح ستشكل صدمة للقارئ العربي أو المسلم بشكل عام واليمني بشكل خاص، خصوصًا لو أخذنا في الحسبان السياق التاريخي لترجمة الكتاب. ففي فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كان يصعب على القراء والمجتمع تقبل الآراء المخالفة دينيًا. كما أن ترجمة “كنت طبيبة في اليمن” كانت موجهة إلى القارئ اليمني، وأراد المترجم إيصال رسائل سياسية له ضد النظام الملكي الحاكم له، فكيف سيتقبل هذا القارئ رأيًا من “ملحدة” تسخر بالدين ضد ملك “إمام” يستند في حكمه إلى مذهب ديني؟

من الجمل التي قفز من عليها المترجم، حينما كتبت الطبيبة: “لكنهم يظلون مؤمنين بعمق، وقد يحتقرونني لو تجرأتُ بأن أقول لهم بأن الإنسان الفاضل قد لا يكون مؤمنًا بالله”[27]. وفي مقدمة المؤلفة اعترفت فايان بجهلها باليمن الذي كانت تظنه بلدًا آسيويًا، لكنها عرفت أنه بلد: “جبلي في جنوب الجزيرة العربية مقفل الحدود يحكمه ملك”[28] انتهت الفقرة الفرنسية هنا. ولكن المترجم يواصل “وأعترف أن هذا لم يثر عندي أية رغبة في الذهاب.”[29] وعند العودة إلى النسخة الفرنسية، نعرف أن الفقرة الجديدة بدأت بجملة: “الإسلام، وكراهيته للمرأة، وتقشفه الذي يقلل من شأن الفنون، وعقيدته المستبدة”[30]، ثم تواصل جملتها “أعترف أن هذا لم يثر عندي أية رغبة في الذهاب”. ولكن غيّر المترجم الجملة بحيث أصبح معناها مختلفاً عما أرادته المؤلفة، وذلك خوفًا من ردة فعل القُراء إزاء آرائها ضد الإسلام، وأيضًا لتركيز بوصلة الكتاب نحو الإمام.

كلمة أخيرة

حولت الخيانة في ترجمة “كنت طبيبة في اليمن” الكتاب من دراسة اثنوغرافية أنثروبولوجية عن المجتمع اليمني إلى كتاب تاريخٍ سياسي يظهر مساوئ الحكم قبل ثورة 1962. وكانت دراسات المرأة والطفل في الكتاب هي الأكثر خسارة فقد سقطت من النص العربي تفاصيل مهمة عن الحياة الاجتماعية والثقافية لليمنيين في فترة حساسة من تاريخهم الحديث. استفاد قراء النسخ المنشورة باللغات الأوروبية من تلك التفاصيل المهمة في الكتاب وحرم منها القارئ اليمني الذي يحكي الكتاب عنه وعن حقبة تكوينية مهمة في تاريخه الحديث.

[1] – Claudie Fayein, Une Française médecin au Yémen, Julliard, Paris, 1955. P 163

[2] – une francaise medecin au Yemen, p 200

[3] – ibid, p 200

[1]https://www.khuyut.com/blog/6821

[2] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، ترجمة محسن العيني، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة- صنعاء، اليمن، 2004، ص 28.

[3] – نفسه، ص 5

[4] – كلودي فايان، حياة النساء في اليمن، ترجمة بشير زندال، جامعة ذمار، اليمن، 2008، ص 15.

[5] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، مرجع سابق، ص 203

[6] – une francaise medecin au Yemen, p 224-225

[7] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، مرجع سابق، ص 206

[8] – نفسه، ص 206

[9] –  une francaise medecin au Yemen, p 240

[10] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، مرجع سابق، ص 76

[11] – une francaise medecin au Yemen, 138- 139

[12] – ibid, p 142

[13] – ibid, p 56

[14] – ibid, p 56

[15] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، مرجع سابق، ص 72

[16] – une francaise medecin au Yemen, 59

[17] – ibid, p 116

[18] – ibid, p 116

[19] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، مرجع سابق، ص 134

[20] – نفسه، ص 156

[21] – une francaise medecin au Yemen, p 140

[22] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، مرجع سابق، ص 156

[23] – une francaise medecin au Yemen, p 142

[24] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، مرجع سابق، ص 62

[25] – une francaise medecin au Yemen, p 46

[26] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، مرجع سابق، ص 233

[27] – une francaise medecin au Yemen, p 133

[28] – كلودي فايان، كنت طبيبة في اليمن، مرجع سابق، ص 26

[29] – نفسه، ص 26

[30] – une francaise medecin au Yemen, p 10

اظهر المزيد

Bachir Zendal

Assistant Professor in Translation and French Literature at the University of Dhamar. Bachir is a translator and short story writer. He has a number of publications, both in translation and literature.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى