This post is also available in: English (الإنجليزية)
تمثل المسيرة الغنائية للفنان أبوبكر سالم بلفقيه (1939- 2017) صورة استثنائية، ليس فقط في الغناء اليمني والخليجي وحسب، إنما في الأغنية العربية الحديثة بعامة. لقد أثر أبوبكر في الذاكرة العاطفية و الحساسية الفنية لدى اليمنيين تأثيراً عميقاً. وبأسلوبه الجديد في الأداء والظهور المسرحي المميز أحدث أبوبكر تطورا هائلا في الغناء اليمني.
يصادف العاشر من ديسمبر الذكرى الأولى لرحيله المؤسف. وفي هذه الذكرى نستعيد سيرة غناء غير قابلة للموت. سيرة تتزاحم فيها صورتان حسيتان: صورته بالبدلة ثم الرداء الخليجي (الثوب والعقال) وهما علامتان على المراحل التي مرت بها سيرته المليئة بالإنجازات. و المتابع لحياة أبوبكر سالم منذ خروجه من حضرموت في مطلع خمسينيات القرن العشرين حتى وفاته العام الماضي يجد أنها تنقسم إلى ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: يمكن أن نسميها مرحلة عدن وبيروت. وتمتد من 1956 حتى 1975 تتخلل هذه الفترة سنوات انقطع فيها عن الغناء نتيجة انشغاله مرة بالتدريس ومرة أخرى بالتجارة. بعد ذلك، استأنف مشواره في 1975. في هذه الفترة كان أبوبكر متأثرا بصورة أساسية بمشايخ الغناء اللحجي والصنعاني. وفيها غنى بعض الأغاني اليمنية الخالدة التي أخرجها من قبو الجلسات المحصورة و المخادر إلى فضاء المسرح.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة أكثر نضجاً من سابقتها. وفيها أصبحت القاهرة منذ 1975 مركزاً لتسجيل أغانيه. في هذه المرحلة ظهرت مؤثرات مصرية في كثير من العناصر الموسيقية التي ضمنها أغانيه، وقد امتدت إلى أوائل تسعينيات القرن الفائت. وفيها تظهر ملامح انفتاح أبوبكر على الأغنية الخليجية مؤثرا فيها ومتأثرا بها أيضاً.
المرحلة الثالثة: مرحلة الرجوع إلى الجذور، وفيها يعود الشيخ إلى بداياته مستلهماً الدان الحضرمي و النشيد الصوفي التريمي. في تلك المرحلة، سيستولي العقال على ظهوره الغنائي، بعد أن كان ظهوره بالبدلة يعكس تطلعاً الى فضاء عربي أوسع.
تنوع وثراء
كانت الأغنية العدنية أحد أركان مرحلته الأولى والتي سعى أبوبكر فيها لتقديم شخصية غنائية متفردة منذ البداية. فأول أغنية سجلها لإذاعة عدن “يا ورد محلا جمالك بين الورود 1956”. أعاد تقديمها لاحقاً بصوته الفنان السعودي “طلال مداح”. وقبل استقراره في بيروت، ساهمت عدن في انفتاحه على الكثير من العناصر اللحنية في اليمن والعالم العربي.
كانت بيروت محطة الانتشار الأولى لأبوبكر خارج عدن واليمن. ولا عجب فقد كانت مقصد الفنانين من اليمن والخليج؛ وتحديداً في الستينيات، لتسجيل أغانيهم في مضمون موسيقي أكثر عصرية مما هو متاح في بلدانهم. وهذا واضح في أغاني أبوبكر المسجلة ببيروت مقارنة بتلك التي سجلت في عدن. فوجود فرقة وعازفين أكثر اقتداراً، إلى جانب موزعين موسيقيين، كل ذلك شكل فارقاً في شكله الغنائي. ظهرت في بيروت مؤثرات موسيقية لبنانية على كثير من الجمل الموسيقية في أعمال أبوبكر، ومثال ذلك أغنية “يا زارعين العنب” من مقام البيات[1]؛ إذ تم توظيف ثيمات لحنية لبنانية في لحن اللازمة الموسيقية للأغنية، فالخلايا اللحنية [2] المتكررة بتسارع متصاعد يشتم منها صوت الدبكة.
وفي 1968 حاز أبوبكر جائزة الاسطوانة الذهبية من اليونان، وذلك بعد أن حققت أغنية “امتى انا اشوفك” مبيعات قياسية.
ولهذا النجاح عوامل كثيرة، فمؤلف وملحن الأغنية أبوبكر نفسه، اعتمد على كلمات مفهومة لأي مستمع عربي. كما أن الرتم السريع والثيمات اللحنية السهلة، جعلت اللحن خفيفاً وقابلاً للانتشار. وعندما أعاد اللبناني وليد توفيق تقديم الأغنية في الثمانينيات، كان يستعيد في ذاكرته جزءاً من أغاني بيروت في نهاية الستينيات. والأغنية نفسها سبق وغنتها أيضاً نجاح سلام. كما أن مقام الأغنية الكرد[3] (الخالي من ربع التون الشرقي)، هو مقام كثير من أغاني أبوبكر التي انتشرت عربياً؛ أي خارج الخليج واليمن. بل هو المقام الأكثر استخداماً في الغناء الخليجي الحديث، والعربي على حد سواء.
قدم أبوبكر في تلك المرحلة مجموعة من أجمل أغانيه: “انتِ يا حلوة”، “باشل حبك معي”، “أربع وعشرين ساعة”. واستخدم أيضاً إيقاعات يمنية وشرقية، إضافة إلى الإيقاعات الأجنبية مثل الرومبا والسامبا.
في تلك الفترة كانت البدلة، تهيمن على المظهر الغنائي لأبوبكر، سواء في صورته على أغلفة البوماته، أو عند ظهوره على المسرح، حتى في الحفلات التي سيقدمها في الكويت خلال الستينيات. ومع استقراره في السعودية بدأ العقال بالمزاحمة. كانت تلك مرحلته الثانية الأكثر نضجاً سواء في صوته، أو في اختياراته الغنائية. كما اختفت نبرة حادة في صوته، ليصبح أكثر وضوحاً في طبقة الباتون وصولا الى الباص، وهي الطبقة المتوسطة والأكثر غلظة في الصوت الرجالي[4]. غير أن البدلة، مع ذلك، ظلت كما هي مهيمنة في أغلفة البوماته، وحفلاته خارج الخليج.
واتضحت فرادة أسلوب ابوبكر الغنائي في كثير من السمات؛ فهو يملك صوتاً فريداً منضبطاً واسع المساحة بحيث يكون بمقدوره التلاعب بطبقات صوته والارتجال دون الخروج عن المازوة الموسيقية.
خلال الثمانينيات، برزت ملامح جديدة في التوزيع الموسيقي لأغاني أبوبكر. وكانت استمراراً لنهاية السبعينيات. تطلع أبوبكر في مرحلته الثانية، إلى توسيع قاعدة جمهوره في العالم العربي. وهو ما جعله يوظف الكثير من الثيمات اللحنية السهلة، حتى وإن لم تبرز مساحة صوته القوي.
تعود أغنية “أنا سبب نفسي بنفسي” إلى ذلك الطابع. وتندرج أيضاً ضمن شكل قدَّمه في أغنية “ما علينا يا حبيبي” ليس فقط في كونهما لحنتا على مقام الكرد، أو في ثيماتهما اللحنية البسيطة، إنما أيضا لأن الأغنيتين أبرزتا مساحة واسعة للموسيقى، بإمكاننا ملاحظتها من خلال تعدد الجمل الموسيقية بين مقطع وآخر، بصورة تحاكي، نوعاً ما، الأغاني الطويلة في مصر.
و هذا لا يعني أن جل أعماله آنذاك ظلت بطابع واحد. فهناك الكثير من الأغاني التي أبرزت عضلاته الصوتية. وفي أغنية ” أقله ايه”، التي أداها عام 1978 وهي من ألحان حسين المحضار، يتدرج صوته في طبقات متعددة. بدأت تلك المرحلة ( منتصف السبعينيات) بأغاني ذات طابع طربي: و منها “عتابك حلو” عام 1979. وكان واضحاً، في الثمانينيات ظهور الكثير من الملامح الجديدة على شكله الغنائي التي جعلته يميل أكثر للغناء التعبيري المتحرر من قواعد القالب والشكل الجامدة في سبيل تعميق المضمون وتجسيد مشاعر الفنان. هذا دون تجاهل منا لحقيقة أن “التعبيرية” مصطلح فضفاض في الموسيقى.
في النصف الثاني من تسعينيات القرن الفائت أصبح العقال ليس مجرد انصهار في هوية اختيارية، بل نتيجة صلته المباشرة مع جمهور بعينه في الخليج. أما جمهوره اليمني فقد عشقوه بأي صورة يظهر بها؛ لأنه ابوبكر سالم قد أصبح بالنسبة لهم رمزا ملحميا في الفن. و من جهته، كان الغناء اليمني موطن اعتزاز أبوبكر الدائم. و المعلوم أن عوامل اجتماعية قد دفعت بالكثير من اليمنيين للعيش في الخليج، وكان العقال أحد شروط اندماجهم في تلك المجتمعات. ولم يكن أبوبكر سوى جزء من سياق اجتماعي. وقد فرضت عليه شروط احتياجاته الفنية.
كانت الرؤية الواضحة لديه تتمثل في تقديم أغاني من التراث الصنعاني في قالب متطور يمكن استساغته. وبالشراكة مع أحمد فتحي، تم توظيف الموسيقى لهذا الغرض، إضافة الى نزع الطابع المحلي الصرف عن اللحن، و انصب اهتمامهما تحديداً على التطويع المقامي للحن. ففي أغنية “رسولي قوم بلغني إشارة”، التي من مقام البيات، يتم تهيئة اللحن بقالب يمكن للأذن العربية استساغته. بصورة خاصة، استبعد “ربع البيمول” أو ما يسمى نصف ربع التون، وهو صوت موسيقي غير مستساغ للأذن العربية، كما أنه لا يستخدم في مكان آخر غير اليمن.
أضاف أحمد فتحي على التوزيع الموسيقي لأغنية “رسولي” أسلوب عزف في الغناء الصنعاني يُسمى “الفرتاشة”. وهو ما ظهر في الحوار بين العود والأوركسترا. كان الغناء الصنعاني تحدياً لأبوبكر، خصوصاً مع المهمة التي اضطلع بها، وهي إبرازه في ثوب متطور، مع الحفاظ على خصوصيته وأساليبه التقليدية. وبأداء صوتي مبهر، قدم أبوبكر أغاني عديدة من هذا اللون. وعلى سبيل المثل، لم يصل أحد إلى أداء أبوبكر في مطلع أغنية “وامغرد بوادي الدور”، بذلك الامتداد الصوتي مع الطبقة العالية.
تبلورت شخصية أبوبكر الفنية ونضجت خلال المرحلة الثانية. في هذه المرحلة تطلبت هيمنة التعبير الغنائي اقتصاداً في الزخرف على حساب المنحى التطريبي. ومنذ البداية كان أبوبكر شديد الاهتمام بحضور الفرقة الموسيقية؛ فالألحان الجميلة والصوت القوي الفريد، بحاجة أيضاً لوعاء موسيقي يكون حاملاً لانتشارها وظهورها على أفضل صورة. وهو الأمر الذي دفعه للهجرة. وفي تلك المرحلة قدم الكثير من الأغاني الجميلة، وخصوصاً في الثمانينيات: “سر حبي فيك غامض”، “ما علينا يا حبيبي”، “لو خيروني”، “يا ظبي صنعاء”، “ايوه على عينك”، “اللي كان أمسي”.
يعود أبوبكر إلى عناصر لحنية حضرمية في مرحلته الثالثة، خصوصاً منذ نهاية التسعينيات. ورغم رجوعه ذلك نحو المحلية، فإن جمهوره العربي ظل راسخا فهو قد أصبح معروفا وثيماته اللحنية ثابتة لديه. أضف إلى ذلك حقيقة أن الأغنية الخليجية كانت قد حققت انتشاراً عربياً في النصف الثاني من التسعينيات. ومما يذكر هنا أن وردة الجزائرية قد قدمت أغاني من ألحانه، باعتباره رمزاً غنائياً عربياً إضافة إلى رمزيته اليمنية والخليجية.
تعود نشأة أبوبكر الغنائية إلى تريم- حضرموت حيث ترعرع في بيئة دينية صوفية. وهو ينتمي من جهة الأب إلى آل بلفقيه ومن جهة الأم إلى آل الكاف وكلاهما أسرتان من فروع آل باعلوي. تشرَّب أبوبكر في هذه البيئة الشعر والروحانيات ومارس في حضراتها وموالدها أداء الأناشيد والتواشيح الدينية.
قدّم أبوبكر في مشواره الكثير من الأغاني الصوفية. ولعل قصيدة ابن عربي “عللاني” أكثرها شهرة. ويظهر الدور الإيقاعي لمد اللحن بمسحة روحانية لها جذور في آسيا وتحديداً في الهند. أداء أبوبكر لهذا اللون اتسم بالتجلي والوجد الصوفيين. وقد أتاح ذلك للحن أن ينزع نحو الاستعراض الصوتي و التطريب.
وهنا يصح السؤال عن هذا الاتجاه الصوفي لدى بالفقيه. فهل لذلك صلة بالحنين، أو أنه ارتباط بحالة روحانية خاصة ستغلب عليه أواخر حياته كغيره؟ وكلا الأمرين صحيح على الأرجح. قدم بالفقيه في هذه الفترة أغاني الدينية ذات الطابع الصوفي: أهمها (يارب يا عالم الحال) من شعر عبدالله بن علوي الحداد، و ( الرشفات) من شعر جده بالفقيه. وقد كان آخر تلك الأغاني ما ظهر في البوم “شوف لي حل” الذي صدر عام وفاته 2017، في هذا الإصدار أعاد بالفقيه تسجيل أغنية “حي الربوع” بتوزيع موسيقي جديد، وهي من كلمات جده علوي بن شهاب. غير أن صوته في هذا الألبوم ظهر متهالكاً ومُتعباً قبل اغماضته الأخيرة بشهور. وكأنما كان غرضه التأكيد على أن الغناء هو أنبوب الاوكسجين الذي به عاش ويعيش.
هل يُعقل إنهاء الحديث عن أبوبكر دون الإشارة الى رفيقه منذ البداية الشاعر حسين بن أبوبكر المحضار؟ وهو من قدم لأبوبكر أجمل أغانيه في شراكة موسيقية امتدت لخمسين عاماً. ومن بين تلك الأغاني “سر حبي فيك غامض”، “ايوة على عينك”، “سير واتخبر”، “شلني يا ابو جناحين”. إنها قصة أخرى في مسيرة غنائية عظيمة تحمل سمات الصحراء العربية وخوص النخيل الحضرمي.
إن السيرة الغنائية لأبوبكر تمثل صورة عن هوية يمنية شائكة. وفيها يظهر المهجر كمعبر لقصة نجاح أو طوق نجاة ووصول نحو الهدف. لقد أصبح أبوبكر محل تنازع يمني سعودي؛ إذ يقدمه الخليج كفنان سعودي من أصول حضرمية، في حين أن أبوبكر ظل وفياً لجذوره، وإنْ حمل جنسية سعودية. ومن هنا، كان بالنسبة لليمنيين جزءاً أصيلاً من موروثهم.
والجلي أن أبوبكر الموهوب في الغناء والتلحين كان واعياً بأهمية التطور والشغل على الموهبة. لقد طور الأساليب الغنائية والأشكال اللحنية المحلية التي حملها معه الى المهجر . وشكلت مسيرته قصة نجاح، وفرادة غنائية؛ استطاع خلالها ان يترك اثراً وتطويراً لافتاً، ليس فقط في الغناء اليمني، وإنما الخليجي. ذلك انه استطاع في مشواره الفني احتواء الكثير من العناصر الغنائية غير اليمنية دون مسخ شخصيته الغنائية المحلية. ومن هنا، بقي أثره الغنائي ممتداً خارج اليمن ليشمل كل العالم العربي.
شكر خاص
أشكر بصورة خاصة الكويتي غانم هزاع الذي لم يبخل بمعلومات عن أبوبكر
وأيضاً اشكر العزيز وضاح عثمان على النقاش المستفيض معه بهذا الخصوص.
[1] مقام البيات: هو احد المقامات الشرقية التي تحتوي على ربع الصوت، ومن اكثرها استخداماً في الغناء العربي، ويكاد يكون المقام الوحيد الذي يحتوي على ربع التون، ومازال يستخدم في اغاني البوب العربي.
[2] الخلية اللحنية: هي أصغر وحدة شكلية ذات معنى في العمل الموسيقي، ويمكن لخلية واحدة أن تتكون من مقياس أو أكثر وعادة لا تتجاوز المقياسين على أن يكون لها بنية لحنية وإيقاعية مكتملة. ومن مجموع عدد من الخلايا اللحنية تتكون الجملة الموسيقية.
[3] مقام الكرد: هو واحد من اشهر المقامات الموسيقية، وتعتمد عليه معظم الأغاني الحديثة كسلم موسيقي لأنه من اسهل السلالم الموسيقية، وهو احد المقامات الخالية من ربع التون الشرقي؛ ومن المقامات التي تُستخدم اضافة الى الشرق الاوسط في اليونان واسبانيا وبعض دول شرق اوروبا، والهند. كما ان الفنان الحضرمي محمد جمعة خان، اتى بهذا المقام من الموسيقى الهندية وادخله الى الأغنية الحضرمية.
[4] تنقسم الطبقات الرجالية الى ثلاث مستويات وهي التينور، وتعتبر الطبقة الأعلى والأكثر حدة في الصوت الرجالي. الباتون، وهي الطبقة الوسطى واغلظ من الطبقة الأخرى بينما تعتبر الباص الأكثر غلظة في الأصوات الرجالية.
جمال حسن كاتب صحافي من اليمن يكتب في النقد الموسيقي وأصدرت له رواية بعنوان “حشرات الذاكرة”