This post is also available in: English (الإنجليزية)
غيرت الزراعة والرعي حياة المجتمعات اليمنية القديمة، فشهدت الألفية الخامسة قبل الميلاد انتقال الكثير من الشعوب اليمنية للعيش في الأودية الخصبة التي تحملت كثافة سكانية غير مسبوقة في تلك الفترة. حيث شرع اليمنيون ببناء القرى واستصلاح الأراضي الزراعية وإنشاء حظائر حيوانية بالقرب من الأنهار والمراعي الخضراء.1 كما شرعوا في حساب مواسم الأمطار وتنظيم مجاري السيول2، وقاموا ببناء الهياكل الحجرية المعقدة3 وتخلوا عن تصنيع الأدوات الحجرية البسيطة التي أضحت غير مفيدة لحياتهم الجديدة في الرعي والزراعة. نقدم في هذا المقال لمحة عن الصناعات والإنشاءات الحجرية المعقدة التي ظهرت مع نهاية العصر الحجري في اليمن في مجالات مثيرة للدهشة مهدت لانفجار الحضارة.
تعرف هذه الفترة بظهور الفكر الديني وبداية اندثار الفكر السحري. وهي بداية الحضارة البشرية في اليمن، التي ظهرت أول ملامحها في وادي حضرموت. حيث يوجد أقدم نصب حجرية ميغاليثية ربما يكون الأقدم في شبه الجزيرة العربية. والميغالثية عبارة عن أحجار كبيرة جدا تقف منتصبة جوار بعضها البعض، قامت المجتمعات الرعوية والزراعية ببنائها في نهاية العصر الحجري الحديث، وتمثل الجذور الأولى لظهور المعابد. وقد لا يبدو مستغرباً تشابه معنى اسم (حضرموت) مع اسم (الحضر)؛ إذ يعتقد باحثون كثر أن كلمة حضرموت تعني (الحضر) مثلما تعني الكهنوت الكهانة واللاهوت الألوهية والناسوت الناس. وبحسب المهندس سبأ الصليحي فإن ما يدعم هذه الفرضية هو وجود أسماء كثيرة مثل حضرموت في اللغة العربية على صيغة فعلوت، وهي على ما يبدو رواسب من لغات سامية قديمة كالأرامية والسريانية والحبشية والعبرية أو تشترك معها في الأصول والتلاقح. أما حرف ال(ميم) الزائد في كلمة (حضرموت) فهو أداة تعريف للمؤنث في آخر الكلمة في لغات اليمن القديمة.
النصب الحجرية
هي أول الإنشاءات التي قام بها البشر على الاطلاق، انتشرت مع نهاية العصر الحجري بشكل واسع في بلاد الشام واليمن وأفريقية وأروبا، وأشهرها هي ألواح ستونهنج في بريطانيا. وإلى اليوم مازالت النصب الحجرية الميغاليثية هي أكبر الألغاز التي تحير علماء الآثار؛ إذ كيف استطاع رعاة ومزارعون من العصر الحجري رفع كتل حجرية يصل بعضها إلى 300 طن؟. وفي اليمن استطاعت العديد من البعثات الأثرية العثور على أشكال متعددة من النصب الحجرية منتشرة في مناطق مختلفة ومنها (حريب القراميش صنعاء، جبل مصنعة ماريا في ذمار، وادي حريب شبوة، وكذلك نصب جبال جردان والرويق المعزولة وسط رملة السبعتين وصحراء الربع الخالي)5.
للنصب الحجرية في اليمن دلالات شعائرية وطقوسية متعددة. في مارس 1997 تمكنت بعثة كندية من اكتشاف أحجار لوحية ضخمة منتصبة وسط صحراء تهامة، يصل طول بعضها (12) قدماً وتزن حوالي (20) طناً بالقرب من قرية المدمن على ساحل البحر الأحمر.5 ويدل هذا الاكتشاف على ثقافة ميغاليثية يمنية غير معروفة (سماها الباحثون ثقافة المدمن). وفي حضرموت اكتشفت في وادي سناء نصب حجرية تعود إلى العام 5000 ألف قبل الميلاد وهي عبارة عن ألواح صخرية ضخمة واقفة جوار بعضها البعض (بنيت في البداية كحلقة شبه دائرية). 6 لقد استخدمت هذه النصب الحجرية القديمة كمنصات لتقديم الأضاحي وكمعابد بدائية مورست فيها الاحتفالات الطقسية.
شهد العام 3000 قبل الميلاد انتشار ثقافة حرق الموتى وطقوس أخرى معقدة في الدفن، وتغيير استخدامات النصب الحجرية القديمة. تحول نصب وادي سناء بحضرموت إلى مقابر، كما عثر تحت نصب مدمن في تهامة على ثلاثة هياكل عظمية للأطفال دفنت بعد مرور آلاف السنوات من انشاء الأحجار.7 وذلك يؤكد حدوث تحول ثقافي جرى فيه استخدام النصب الحجرية القديمة بمثابة مقابر مقدسة. يدعم هذه الفرضية اكتشاف آخر عثر عليه تحت نفس النصب الحجرية في مدمن، ويتمثل في العثور على أدوات نحاسية (ملاعق، وخناجر، ومقاشط، وسبائك) دفنت في فترة لاحقة بعد تورية الموتى الثرى. وتشير نتائج الفحوصات المختبرية أن هذه الأدوات قدمت إلى النصب الحجرية وسط مراسيم احتفالية، وأن هذه الأدوات النحاسية التي تم تقديمها كقرابين لم يكن هدفها وظيفي بل دفنت لقيمة رمزية مجردة.8 فهل قدمت القرابين النحاسية لإرضاء الموتى؟
في تلك الفترة توقف اليمنيون عن بناء النصب الحجرية الميغاليثية, وبدأوا في بناء النصب الحجرية الجنائزية, أو ما تسمى بالمقابر المرتفعة على شكل غرف. وفي وادي الجول في حضرموت توجد العديد من هذه القبور منتشر على الهضاب الجيرية، وفي منطقة جدران والرويك في رملة السبعتين توجد مقابر كبيرة تحتوي على ما يقارب الثلاثة آلاف قبر مرتفع، عثر في بعض القبور فيها على عظام غنم وماعز. وذلك يبين بأن قاطني تلك القبور كانوا يعيشون حياة رعوية.9 لقد تغيرت أشكال الإنشاءات الحجرية في تلك الفترة لتصبح بأشكال حجرية دائرية مجوفة ومغلفة، يغطيها سقف مقوس من الألواح الحجرية المسطحة، ولهذه المقابر مداخل علوية لكنها تغلق بإحكام. ويبدو أن وظيفة هذه المقابر كانت دفن الجثث مع ما قد يوضع معها من أدوات نفيسة، ومع ذلك فقد تعرضت كلها للنهب بل وأعيد استخدامها كمقابر في فترات متأخرة من العصر البرونزي.10 ومع حلول العام 2000 قبل الميلاد وبداية أفول العصر الحجري، ظهرت تلال الدفن المصحوبة بأعمدة حجرية في اليمن. وهي عبارة عن ركام من التراب يصل قطرها في العادة م إلى 30 متر تغطي مقابر جماعية أو قد تغطي مدفن واحد متميز. وفي أعلى التل يقع نصب حجري مرتفع ليشاهد من بعيد، وتحت هذا النصب مورست طقوس الدفن والحرق 11 وتقديم القرابين للموتى.
طائرات ورقية في الصحراء
هي أشكال غريبة منتشرة في صحراء الشام واليمن، تم تأكيد 700 – 800 من هذه المواقع في صحاري الشرق الأوسط الأدنى، مع أن العدد الحقيقي بلا شك أكبر بكثير. 12 وقد أطلق عليها طيارون فرنسيون بريطانيون شاهدوها خلال قيامهم بالتحليق جوا جنوب الشام تسمية الطائرات الورقية الصحراوية. 13 اعتقد العلماء عند اكتشاف هذه الأشكال الغريبة في الصحاري العربية أنها بقايا تحصينات رومانية أو مجرد حدود يضعها الرعاة لحماية ماشيتهم، حتى توصل المؤرخ النمساوي ياكوب بوركهارت (1818م – 1897ت) في القرن التاسع عشر إلى دلائل تؤكد نمط صيد الغزال في سوريا، وخلص إلى أن الأشكال الغريبة في الصحراء العربية هي هياكل صيد قديمة.14 فسرت فرضيته أن الغرف المحفورة في الأرض المنتشرة في رأس الطائرة الورقية، هي خنادق لإطلاق سهام الصيادين، أو قد تكون فخاخا يسقط فيها الحيوان المصطاد.
وفي اليمن تتميز الطائرات الورقية، التي وجدت على الحدود بين محافظة صنعاء ومأرب، بأشكال مختلفة عن تلك الموجودة في الشام؛ إذ يظهر الشكل اليمني رأسا مختلفا عن تلك الرؤوس الموجودة في الشام، 15 كما يظهر جسدا ذا ممرات طويلة تتوسع أكثر حتى تلتقي ببعضها البعض لتشكل ساحة كبيرة مغلفة. ولهذه الأشكال حدود من أحجار صغيرة متراكمة تكون جدارين.16 ويصل طول الجدارين من 50 مترا إلى 1.5 كيلوا مترا، ويتراوح ارتفاعهما ما بين 0.60 و1 متر، ويؤديان إلى رأس مغلق فيشكلان رأس الطائرة وهو عبارة عن مساحة مغلقة تحتوي على من ثلاثة إلى 12 غرفة منخفضة. ويعتقد بعض الباحثين أن هذه الغرف كانت بمثابة فخاخ قديمة. ويذهب فريق من العلماء إلى أن المقارنة بين هياكل الصيد اليمنية مع نظيرتها السورية تكشف عن اختلافات هيكلية مهمة. وهذا يدل على عدم ملاءمة نظرية بوركهارت في تفسير الأشكال الغريبة الموجودة في صحراء اليمن. إن هذه الاختلافات تبدو كبيرة بما فيه الكفاية لتحدي اعتبار الاشكال اليمنية مصائد للحيونات.17
لقد أحب اليمنيون القدماء الصيد واعتبروه عملاً مقدسا.18 ويمكن بسهولة تخيل مشهد من العصر البرونزي لقطيع من الوعل يرعى في المروج المنحدرة من وادي يالا الواقع بين منطقتي صرواح وصنعاء. في هذه المنطقة اكتشفت بعثة إيطالية منزلاً منفرداً يعود إلى العام 1500-900 قبل الميلاد، وفيه بقايا وعل تم اثبات اصطياده بطريقة طقوسية.19 لنعد ونتخيل قطيع الوعل وقد خرج رجال أشقاء من المنزل المكتشف: أحدهم يذهب للاختباء في غرفة الفخاخ، والآخرون يهرعون لإخافة القطيع بالصراخ وتحريك الذراعين. لنتخيل أيضا كلابا يصحبونها؛ فقد عثرت البعثة على بقايا كلاب في نفس المكان من نفس الفترة. تهرع الوعول خوفا إلى مدخل المصيدة، مسترشدة بجداري “الطائرات الورقية الصحراوية”. تواصل الوعول الركض لتصل إلى رأس الطائرة الورقية وهي مرهقة. تدخل الوعول أزقة الطائرة الضيقة لتجد نفسها محاصرة. عندئذٍ، يخرج الرجل الذي كان مخبأ منذ البداية من إحدى غرف رأس الطائرة. يقترب من الوعل ويقتله من الخلف. وعلى الفور يقوم الأخوة بجر ضحيتهم إلى خارج الطائرة الورقية ثم ينتظرون الحيوان الذي يليه.20
مع اكتشاف البرونز انتهى العصر الحجري في اليمن. وكان حلول العصر البرونزي إيذاناً بنشوء الممالك القديمة. وهذا هو العصر الذي استطاع فيه اليمنيون صهر الحجارة لاستخراج المعادن، حين كان البرونز يستخدم في صناعة الأدوات والتحف والسكاكين.
كثيرة هي الآثار التي خلّفها أسلافنا في العصر الحجري. ولقد استمر استخدام النصب الحجرية والطائرات الورقية في اليمن حتى أوقات قريبة من عصرنا الحديث. ولهذا استطعنا اكتشافها بسهولة، لكن ماذا بشأن الآثار التي اندثرت ومحاها الزمن قبل أن نلقي نظرة عليها؟. بعبارة أخرى، هل كان العصر الحجري أغزر تفاصيلاً مما بين أيدينا؟
شهاب جمال الأهدل، باحث في الأنثروبولوجيا الثقافية. يحمل درجة البكالوريوس في الإعلام (جامعة المستقبل – صنعاء). يعمل مسؤول العلاقات العامة في مؤسسة بيسمنت الثقافية.
مراجع
1- McCorriston J, Steimer-Herbet T, Harrower M, Williams K, Saliège J-F, `Aqil `Abdalaziz Bin.(2011). Gazetteer of small-scale monuments in prehistoric Hadramawt, Yemen: a radiocarbon chronology from the RASA-AHSD Project research 1996±2008. P 2
2- McCorriston J, Steimer-Herbet T, Harrower M, Williams K, Saliège J-F, `Aqil `Abdalaziz Bin.(2011). Gazetteer of small-scale monuments in prehistoric Hadramawt, Yemen: a radiocarbon chronology from the RASA-AHSD Project research 1996±2008. P 1
3- Barca, D., Lucarini, G., & Fedele, F. G. (2012). The Provenance of Obsidian Artefacts from the Wadi Ath-Thayyilah 3 Neolithic Site (Eastern Yemen Plateau). Archaeometry, 54(4), (PP. 603–622).
4- Braemer F. (2003). Dolman- like structures: some unusual funery monuments in Yemen; Proceeding of the seminar for Arabia studies. p 169
5- Giumlia A – M. (2000). Copper-based implements of a newly identified culture in Yemen: Journal of Archaeological Science, P 37
6- McCorriston J, Steimer-Herbet T, Harrower M, Williams K, Saliège J-F, `Aqil `Abdalaziz Bin.(2011). Gazetteer of small-scale monuments in prehistoric Hadramawt, Yemen: a radiocarbon chronology from the RASA-AHSD Project research 1996±2008. P 2
7- Giumlia A – M . (2000). Copper-based implements of a newly identified culture in Yemen: Journal of Archaeological Science, P 37
8- Giumlia A – M . (2002). Investigation of a Copper-based Hoard from the Megalithic Site of al-Midamman, Yemen: an Interdisciplinary Approach: Journal of Archaeological Science, P 195
9- Inizan, M. L. (2009).The Art of Rock Paintings and the Settlement of Yemen in Prehistoric Times -Topics of Rock Painting Art. p. 29-51
10- McCorriston J, Steimer-Herbet T, Harrower M, Williams K, Saliège J-F, `Aqil `Abdalaziz Bin.(2011). Gazetteer of small-scale monuments in prehistoric Hadramawt, Yemen: a radiocarbon chronology from the RASA-AHSD Project research 1996±2008. P 10
11- Fahd H. (2008). Encyclopedia of Historical Archeology. Osama Foundation for Publishing and Distribution. (Arabic version).p 140
12- Braemer F. (1995). Nature et fonction des ‘Desert Kites’: données et hypothèses nouvelles. Paléorient: P 36.
13- Brunner U. (2008): Les pièges de chasse antiques au Yémen: journals openedition org: p 2
14- Skorupka M. (2010). Les « desert kites » yéménites: : journals openedition org: p 3
15- Brunner U. (2008): Les pièges de chasse antiques au Yémen: journals openedition org: p 2
16- Skorupka M. (2010). Les « desert kites » yéménites: : journals openedition org: p 2
17- A vanzini A. (2005). Some Thoughts on Ibex on Plinths in early South Arabian art. Arabian archaeology and epigraphy 16/2: p144‑153.
18- Fedele, F. (2009). Sabaean animal economy and household consumption at Yalā, eastern Khawlān al-Кiyāl, Yemen Proceedings of the Seminar for Arabian Studies 39: 135–154
19- Brunner U. (2008): Les pièges de chasse antiques au Yémen: journals openedition org: p 3
20- Barca, D., Lucarini, G., & Fedele, F. G. (2012). The Provenance of Obsidian Artefacts from the Wadi Ath-Thayyilah 3 Neolithic Site (Eastern Yemen Plateau). Archaeometry, 54(4), (PP. 603–622).