منذ نهاية العقد الأول من هذا القرن، لم تكن تمر ذكرى الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بالاحتفال بها ودخول المجال العام في نقاشات محمومة لتجذير هذا الحلم الذي تحقق، بل كانت تمر مثيرة للقلق وموحية بالفقدان، وأغلب النقاشات الجادة التي كانت خارج دوائر السلطة لم تكن تفكر في تجذير الحلم بل في تثبيت خيمة الوحدة التي تضربها الرياح العاتية وتتوعد من فيها بأن الحلم الذي تحقق سيصير كابوسًا معاشًا فيه تنهار البلاد وتقسم.
أما وقد وصلنا الآن إلى حالة تداعي اليمن مجتمعًا ودولة، فلا يضغط سؤال فهم الوحدة على المرء في المقام الأول، بل مسألة الانفصال وخطاب قادته والأفكار الأساسية التي يتمحور حولها؛ لا لخطورة الأمر وما وصل إليه فحسب، بل وأيضًا لأن التيار الانفصالي في اليمن يتميّز عن باقي الحالات الانفصالية في المنطقة العربية في أشياء كثيرة، كما عاكست الوحدة اليمنية مسار العالم حينها في أشياء كثيرة. تحققت الوحدة اليمنية عام 1990 حين كان تفكك الدول، أو تداعيها بفعل الحروب الأهلية من أعراض أفول إمبراطورية الاتحاد السوفييتي وعالم القطبين معها؛ من الاتحاد السوفييتي نفسه والبلقان وتشيكوسلوفاكيا، مرورًا بالعراق (انتفاضة الجنوب) ووصولا إلى إثيوبيا والصومال. الانفصاليّون في الدول العربيّة، مثل الأكراد في العراق أو الحركة الشعبية لتحرير السودان، كانوا يتّكئون على تراكم مطلبي تاريخي ومظالم امتدّت عقودًا وعلاقات دوليّة وقبل ذلك على تمايز اللغة والثقافة عن أغلبية السكان. أما انفصاليّو اليمن فلا يشد عضدهم تمايز ثقافي أو دعوى اختلاف إثني. حتى محاولات تأسيس الانفصال على التمايز الطائفي لا تتماسك في نهاية المطاف، لأن جزءًا كبيرًا من سكان شمال اليمن ينتمون لنفس المذهب الشائع في جنوبها. يزيد من إضعاف فكرة الانفصال مشروعًا سياسيًا صعوبة المطالبة باستعادة كيان سياسي ذي جذور تاريخية؛ فالدولة التي يُراد “استردادها” عاشت 23 عامًا، أي أنها لم تكمل حياة جيلٍ واحد.هذا الضعف في التكوين الناتج عن غياب التمايز الثقافي أو التاريخي اللازم لتخيُّل الأمّة والمطالبة بتقرير مصيرها هو برأيي المحرك العميق للخطاب الشوفيني الذي يميّز القوى الانفصاليّة منذ أواخر عهد صالح؛ الشوفينيّة هنا ليست مجرد أفكار “أشرار” أو مظلومين تعتمل بداخلهم معتقدات عنصريّة، إنها ضرورة لتعويض هشاشة الأسس الثقافية للانفصال عبر اختراع تفوّق حضاري وتحقير لقطاعات كاملة من السكان، وكان ضرورة لا واعية لتغطية مرض الوحدة العضال ومأزقها الهيكلي الذي أفرز التفكير في الانفصال بالأساس، وسنعود لهذه النقطة لاحقًا.
يجب القول هنا إن تخيُّل “تفوقٍ حضاري” جنوبي على الشمال لم يبتكره الانفصاليون، فهو يمتح من تيار موجود في الثقافة السياسية في جنوب اليمن منذ عهد الاستعمار كان يرى اختلافًا بين الجنوب والشمال، بل إن بعض القوى السياسية والثقافية التي كانت ذات وزن ونضال آنذاك كانت ترى تمايزًا حضاريًا بين عدن وباقي مناطق الجنوب وكانت ترفض توحيد عدن معها. نضال اليساريين والقوميين في الجنوب الذين قدموا أهم تنظير للوحدة اليمنية هو من فرض نفسه في نهاية الأمر وأخمد هذه التيارات بطرده للاستعمار، ولكنه لم يهزمها نهائيًا وذلك لفشله في بناء دولة وطنيّة ذات اقتصاد إنتاجي تبني مجتمعًا حديثًا تقود فيه المدينة الريفَ ويتطور ويتقدم داخله المجتمع الفلاحي بحيث تُغيّر الدولة بذلك من تركيبة القوى الاجتماعية عامةً بما فيها تلك التي تنتج أو تستند إليها تيارات العزلة والرفض المبدئي لفكرة الوحدة عمومًا (وحدة الجنوب أو وحدة اليمن). هذا الفشل لا يفسّر فقط بقِصَر عمر الدولة، ولكن أولًا بالسياسات ذاتها التي كانت تطمح لبناء مجتمع اشتراكي حديث ولكنها ركزت على القانون والتنظيمات وتطرّف الأفكار أكثر من تركيزها على تحليل معمق للبنى الاجتماعية ودرجة تطورها وعلى تغيير قوى المجتمع نفسه بالتنمية والاقتصاد، وكانت حصيلة هذه الطريقة في رؤية التحديث والنضال السياسي حربُ 1986؛ الشقوق القبلية والاجتماعية التقليدية التي كانت موجودة قبل نوفمبر 1967 أضحت صدوعًا كبيرة بعد أن توحّدت الجغرافيا والمجتمعات الصغيرة في عدن والسلطنات –بالقوة، لنتذكر هذا جيدًا- وفُرِض عليها مجال أيديولوجي عاتٍ وطموح ولكنه فشل فشلًا ذريعًا وقضت عليه تناقضاته نفسها في وقت قصير تاريخيًا.
في البلاغة الأيديولوجية الاشتراكية كان التنظير للوحدة واضحًا وواقعيًا وشخّص دور الوحدة وطريقها مبكرًا، وعمومًا تعد مرحلة التفكير في الوحدة شمالا وجنوبا والخطوات التي اتخذت وروكمت في سبيلها منذ مطلع السبعينيات وحتى عام 1986 من أرقى محطات التفكير الاستراتيجي والحوار والمؤسساتيّة في تاريخ العالم العربي. تمايز النظامان في الشمال والجنوب؛ تميز الأخير بالفكر التقدّمي في مقابل غلبة النزعة المحافظة على السلطة في الشمال، وقد استُبدل التمايزُ الأيديولوجي للنظام حينها بالنزوع الانعزالي على أساس تخيل التفوق الحضاري عند بعض القوى السياسية العدنيّة قبل الكفاح المسلح؛ فأضحى الفارق هو البرامج السياسية للسلطة وليس البناء الاجتماعي، ما فتح أفقًا إنسانيًا ووطنيًا حقيقيًا للوحدة باعتبارها حلم شعب واحد يعاني نفس الأمراض والمشاكل الاجتماعية، بغض النظر الآن عن الرأي في دقة تشخيص هذه المشاكل. لاحقًا بعد حرب 94 كانت بعض النخب الجنوبيّة تمتح من هذه النظرة إلى الفوارق بين الشطرين ولكن بتحويله وتشويهه من اختلاف سياسي وأيديولوجي إلى تميُّز ثقافي.
بهذه الملاحظة يمكن تفسير ذلك الانبعاث السريع للخطاب الشوفيني بُعَيْد حرب 94؛ لأن ممارسات نظام صالح وحلفاءه الانتقامية لوحدها كانت ستدفع الناس إلى خطابات من هذا النوع بعد أن يأخذ السخط الشعبي وقتًا حتى يتجمّع ويشكّل قواه السياسية المتطرّفة وخطابه الغاضب المعبّر عنه، وبعد أن تفشل القوى السياسية الكبرى في البلد في مهمة التنوير السياسي وقيادة النضال الوطني وصياغة غضب القطاعات الشعبية في خطاب وطني، ولكن ما حصل هو أن الخطاب ولد قبل أن تظهر تشكيلاته وتنظيماته بعشرة أعوام على الأقل، ونجد أهم مثال على ذلك في كتاب رضية إحسان الله “وثائق حرب اليمن-عدن” الصادر عام 1996 الذي يحوي أغلب التعبيرات والأفكار عن الاختلاف الحضاري بين الشطرين (لصالح الجنوب طبعًا) التي تعتمد عليها إلى اليوم قوى الانفصال وعلى رأسها المجلس الانتقالي الجنوبي، بل ومن الشيق أن في الكتاب كامل عدّة البلاغة العنصرية السُّوقيّة التي يستخدمها أتباع هذا التيار على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم.
الصعود اليساري والقومي في شطري اليمن في الخمسينيّات تغلّب على تيارات معاداة الوحدة أو التيارات غير المتحمسة لها التي كانت أيضًا موجودة في نسيج الحركة النضالية اليمنية وكانت لها مبررات وأساسات لأفكارها، أما فكرة الوحدة في الحركة النضالية في شمال اليمن ضد الإمامة (جيل التنوير) فتحتاج بحثًا خاصًا، وأرجح أن ذلك الجيل كان مثل نظيره الجنوبي في عدن لا يضع الوحدة أولوية في مشروعه السياسي لاعتبارات مختلفة، ولكن هذا ترجيح يحتاج فحصًا وتمحيصًا في تاريخ خطاب النخبة الوطنية في الشمال على كل حال. المهم في هذا السياق أن انتصار التيارات التقدمية في معركة السيطرة على الدولة في الجنوب، وفي بناء قاعدة شعبية واسعة في الشمال_ نجح في تسييد خطاب ورؤية اليسار عن الوحدة وتصعيد الحلم بها إلى المشروع المركزي للأمّة اليمنية حتى تتكوّن وتكتمل، وأدّى إلى تنحّي الخطاب غير المتحمس للوحدة ولكن كما أشرت أعلاه فشل اليسار في تحقيق خطوات كبيرة نحو بناء المجتمع الحديث، ولهذا مع حرب 94 وما ارتكبه نظام صالح فيها وبعدها بُعِثت كل تلك النزعات المطمورة المتحفظة أو المعادية للوحدة.
الانفصال لم يقم على مظالم ثقافية أو طائفية (بغض النظر عن محاولات رموزه الحثيثة اختراع اختلافات هوياتية)، ويمتح في ذات الوقت تراثًا متحفظًا حول الوحدة، ولهذا لم يكن أمامه إلا الخيار المناطقي، وفي كلام آخر، إن الحراك الانفصالي كان مضطرًا لأن يؤسس رؤيته السياسية على المناطقية ثم يبررها بخطابات الشوفينية والتميز الحضاري؛ بدون ذلك سيبقى أي نقاش سياسي في إطار فكرة الجمهورية الموّحدة. لنتذكّر هنا أن تأسيس الحراك الجنوبي عام 2007 بدأت جذوره بإنشاء تشكيلات أهلية تطالب بالمساواة والمواطنة منذ عام 1997، وأن آخر مقدماته كانت احتجاجات العسكريين الجنوبيين المُسرحين من الجيش المطالبين بإعادتهم إلى وظائفهم في مطلع عام 2006، وهنا أطلب من القارئ التوقف وتأمل هذه النقطة جيدًا، بدايات الحراك الجنوبي الذي يطالب بالانفصال كانت مطالبة
جنود مسرحين على أساس مناطقي الدولةَ بإدماجهم في جيشها ومؤسساتها؛ أي أنها مطالب تتبنّى تمامًا وحدة الجمهورية وتعتبر الانتماء إليها مصدر مواطنتهم فيها! وذلك رغم كل ما ارتكبه النظام وحلفاؤه من اغتيالات وحرب وجرائم واستعلاء على المواطنين، لا يمكننا هنا إلا أن نرى كيف أن تراث الحركة الوطنية الأيديولوجي كان عميقًا وقويًا داخل الثقافة السياسية.
كيف حدثت إذًا النقلة الدرامية من المطالبة بحقهم داخل دولة الوحدة إلى المطالبة بنسفها؟
نظام صالح تجبّر ولم يقبل بالتفاهم منذ نهاية التسعينيّات، كما أن تركيبته العصبويّة التي اكتملت في السنوات السبع (1994-2001) كانت تسهل تحفيز رؤى مناطقية عند ضحاياه في الجنوب ومناطق أخرى مثل تعز وتهامة. بالإضافة إلى ذلك، كان آخر الآمال بإصلاح دولة الوحدة قد انتهى مع تراجع صالح المسرحي عن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2006 ثم مجريات تلك الانتخابات والتزوير الكبير الذي حصل فيها، حينها أدرك الجميع، بما فيهم القطاعات الغاضبة في الجنوب، أن أمل تغيير هذا النظام من داخله قد انتهى، خاصة أن ذلك قد ترافق مع قرارات رفع الدعم عام 2005 وتعثر الحالة المعيشية للمواطنين، مما أعطى قواعد شعبية إضافية للأفكار التي ترى ضرورة الذهاب إلى حل جذري لمسألة السلطة في اليمن، خاصة وأن مقتل الوحدة الفعلي كان أن نظام صالح لم يكترث بالأمان المعيشي الذي ضمنته دولة اليمن الجنوبي للمواطنين باعتبارها رأسمالية دولة منعت في ذات الوقت تكوين برجوازية وطنيّة، وهذا يعني أن المواطن الجنوبي بعد الوحدة وجد نفسه بلا تأمينات وأمان اجتماعي وفي ذات الوقت بدون برجوازية ذات تقاليد يمكنه الاندماج فيها والمشاركة في بواقي الثروة الوطنية التي تركها نظام صالح لبقايا البرجوازية القديمة والبرجوازية الصغيرة بعد أن خصّ أسرة الرئيس ودائرته المقربة ورجال الأعمال المتحالفين معه ومع الإسلاميين بأهم المشاريع والاستثمارات.
من المظالم وانسداد أفق التصحيح واستفحال مرض الوحدة العُضال وهو اهتراء دعائمها الاقتصادية وتجويف المواطنة_ ظهر مطلب الانفصال، ولكن ثمة عاملًا آخر أكمل دائرة الحصار على الوحدة وهو انتعاش أوهام الحلول الهويّاتيّة للمشاكل الكبيرة: في أقصى الشمال نشأت مليشيا ذات أيديولوجيا طائفية-عرقية، وفي الجنوب ظهر الحراك الجنوبي الذي لا يرى الحل في السياسة والاقتصاد بل في البحث عن هوية جديدة أو استرداد هويّة مخترعة وفصل المجتمع والدولة، والقوة السياسية الأكبر في البلد منذ عقود، التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون في اليمن)، قوة هوياتيّة من الدرجة الأولى. تكامَل نظام صالح وحزب الإصلاح آنذاك في تجهيز البلاد لانفجار الهويات: الأول ضرب ومزّق القوى الأيديولوجية التي كانت تطرح تفسيرات وبرامج سياسية واقتصادية للأزمة الاجتماعيّة والانسداد السياسي، والثاني بتحالفه مع نظام صالح منذ السبعينيات هيمن على المجال الثقافي فالحًا تربة الثقافة السياسية ومهيئًا إياها لتلقي بذرة مشاريع الهويات شمالًا وجنوبًا.
حتى حين حاول النظام احتواء مطالب الجنوبيين، مثل إعادة المئات من العسكريين المسرحين ورفع رواتب المتقاعدين، جاءت إجراءاته متأخرة وبعد أن كانت تلك القوى قد تجاوزت الرؤية السياسية المؤطرة بالمواطنة إلى المطالبة بالانفصال في يوليو 2007. فشلت تلك الإجراءات لأن النظام تحرّك بنفس منطق الحراك الجنوبي في رؤيته للمشكلة؛ أي اعتبار ما سمي لاحقًا القضية الجنوبية شأنًا يخص الجنوبيين أو بالأحرى الحراك الجنوبي، في حين أن مسألة الجنوب كانت تطرح الأسئلة على موضوع الوحدة، أي مسألة اليمن عمومًا.. مسألة المواطنة فيها أولًا، ومسألة بنائها الاقتصادي وضرورة ترسيخ مؤسسات وأساسات اقتصادية للوحدة ثانيًا. النظام فضّل منطقه على منطق تشخيص مشكلة الوحدة وإصلاحها ليس فقط لأنه يريد ذلك، بل لأن تركيبته التي وصل إليها في العقد الأول من هذا القرن جعلته عاجزًا عن تحقيق إصلاحات بهذا الحجم بدون أن يلغي نفسه؛ لم تكن الإصلاحات الضرورية لحل القضية الجنوبية والحفاظ على الوحدة إصلاحات تخص بضعة مؤسسات أو إصدار بضعة قوانين ورفع رواتب وإعادة مفصولين إلى عملهم، كان يجب إصلاح النظام نفسه بدمقرطته حتى يتسنى لمجموع المواطنين شمالًا وجنوبًا المشاركة فيه وصياغة سياساته وبالتالي استعدادهم لتقديم التضحيات خلال المرحلة الأصعب وهي بناء شبكات الضمان الاجتماعي وتطوير الأرياف وبناء اقتصاد انتاجي يستوعب المواطنين ويفتح أمامهم أبواب الصعود الاجتماعي.
لكي تستمر الوحدة كان لا بد من إلغاء نظام صالح وبناء نظام ديمقراطي يفتح الباب أمام التنمية وبناء بنية تحتيّة للمواطنة والانتماء الوطني، إما بمبادرة من النظام نفسه أو بالقوة من خارجه. الاحتمال الأول سقط في 2006، أما الاحتمال الثاني فهو ما حدث في ثورة 11 فبراير 2011. كانت الثورة حينها ذات تأثير تناقُضي: قبلة الحياة التي أهديت للسياسة والوحدة والعيش المشترك والضوء الباهر الذي دفع مشاريع الهويّات نحو الكمون وتهدئة النبرة، وفي ذات الوقت فتحت الأبواب أمام تلك المشاريع إلى المُدن وتوسيع مكاسبها لاحقًا؛ فالثورة بضغطها على النظام سمحت مثلًا للحراك الجنوبي، الريفي، بالدخول إلى عدن. يجب التذكير هنا بالحقيقة التي لم يعد أحد يتحدّث عنها هذه الأيام وهي أن أول شهيد لثورة فبراير سقط في عدن.
رغم قدرة الحراك لاحقًا على فرض نفسه في ساحات عدن لأسباب مختلفة- وهذا أمر لم يؤرخ له بعد كما لم يؤرخ لثورة فبراير عمومًا للأسف- أوصلت الصيغة التشاركية الواعدة بالديمقراطية البلادَ إلى تعيين حل القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني؛ في وثيقة مخرجات الحوار الوطني قدّم المؤمنون بالوحدة كل التنازلات الممكنة التي يمكن أن تحصل عليها حركة انفصالية مقابل تنازلها بدورها عن مطلب الانفصال.
ثم مع نجاح الثورة المضادة في الشمال عام 2014، لم تلتزم قطاعات من الانفصاليين بما وقعت عليه ونكثت بمواثيقها في مؤتمر الحوار الوطني؛ فقد أيدت الثورة المضادة بانتهازية مذهلة على أمل أنها ستساعدهم في الانفصال/فك الارتباط، وذلك قبل أن تتجه قوى تحالف صالح-الحوثي نحو الجنوب للسيطرة عليه وسحق كل القوى فيه ومنها الحراك. توارت الرؤى السياسية لتنطلق أوهام الهويات مجددًا، ولكن هذه المرة أقوى وأعتى بدعم خارجي سخي ماليًا وسياسيًا وعسكريًا من جهة، ومن جهة أخرى بوصول تشوّه فكرة الأمة والدولة في القوى السياسية اليمنية المهمة، مثل الحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري، إلى أسوأ مراحله، واستعداد هذه القوى التحالف الواضح مع القوى الانفصالية والرهان عليها، ثم أفضت سياسة الأحزاب اليمنية الانتهازية هذه إلى مرحلة المجلس الرئاسي الذي أعلن عمليًا انتهاء حقبة الأحزاب في اليمن وصعود حملة السلاح إلى أعلى هرم الدولة
.
القوى الانفصالية اليوم في أصلب مراحلها، منذ نشأتها، ماليًا وعسكريًا وسياسيًا (في الداخل والخارج)، وهي قاب قوسين أو أدنى من تحقيق طموحها، ولكن الفكرة الانفصالية ذاتها ليست كذلك، وذلك لسببين: الأول وضوح الفالق المناطقي عند المجلس الانتقالي الجنوبي نفسه، وهو يكاد يكون استنساخًا لنظيره في حرب 86، وهذا يعني أيضًا، علاوة على ما يبعثه من ذكريات أليمة ومخاوف غائرة، فشله في احتكار تمثيل المواطنين في جنوب اليمن. والثاني هو أن الفرصة قد سنحت للقوى الانفصالية بأن تسيطر على عدن ومناطق ريفية واسعة في الجنوب لسنوات، وظهر رغم ذلك تواضع مستوى الإدارة وانتشار الفساد والتجبّر على المواطنين ونهب الممتلكات العامة والفشل الذريع في حل المشاكل الخدميّة التي تهم المواطنين. هذا الأمر يُظهر، لقطاع من الناس على الأقل، فشل مشاريع الهويات، ويؤكد لهم بدهية يصعب إدراكها في المجال السياسي اليمني منذ عقدين، وهي أن حل المشكلة يكون بحل المشكلة ذاتها وليس بتغيير عالمها، وأن تغيير عالَم المشكلة لا يعني تغييرها؛ فقد تبقى على حالها وفي نفس مكانها القديم داخل عالمها الجديد!
الوحدة ليست المشكلة ولا الحل؛ إنها واقع نتج عن تراكمات وابتسارات كثيرة وطريقة أمة في تجنب التفكك والانهيار إلى ألف قطعة، وطريقتها في تعريف ذاتها والتعرّف على ذاتها التي لا تزال في طور التشكل. اليمن (شمالًا وجنوبًا) بتركيبتها الجغرافية والسكانيّة وتخلفها الاقتصادي ومستوى تطورها الاجتماعي وتوزّع القوى فيها لا يمكن أن تستمر في الوجود بدون مؤسسات قوية ونظام ديمقراطي حديث يسمح للمواطنين بالمشاركة في السلطة وتحمل أعباء التحول الاجتماعي المؤلمة دون تفجير الدولة والمجتمع. إن الديمقراطية والبيروقراطية العاتية في حالة اليمن ليست مسألة مزاج مثقفين يحلمون بالعيش كالأجانب بترفٍ ذهني لا يتجاوب مع الواقع، إنها مسألة وجود اليمن ذاتها بشمالها وجنوبها.