أدب

مشكلات فنية وفلسفية في الرواية اليمنية

This post is also available in: English (الإنجليزية)

الصور بإذن من انور الصبري

شهد اليمن في السنوات السبع الأخيرة ثورة اجتماعية وسياسية وثورة روائية مصاحبة. وبحسب عبدالحكيم باقيس، فقد صدر منذ العام 2010  حتى العام 2016 ثمانية وثمانون رواية. وهذا يعني أن الصادر خلال هذه الفترة  أكثر مما صدر من الرواية اليمنية خلال أكثر من سبعين عاما منذ بدايتها في العام 1927 حتى العام 2000. و لا شك أن هذا العدد – الذي لا يزال في ازدياد مطرد- يدل على أن الرواية قد غدت الوسيط المهم لحمل أفكار ورؤى عدد من المنشغلين بالثقافة والأدب في اليمن بخصوص  وضع البلد  الذي يعاني من مشكلات وجودية كبيرة تضع مستقبله في مهب الريح.

والملاحظ على النقد الأدبي الصادر بالموازة مع هذا الاصدار الروائي أنه يميل، في عمومه، إلى الاحتفاء والمديح القائم على المجاملة الاجتماعية، و إلى العرض الموضوعاتي العام المحايد.  يعزف النقاد عن التعمق في قراءة هذه الروايات الصادرة وتقييمها فنيا و تبصير القاريء من جهة ،وكتّاب الرواية من جهة أخرى، بنقاط القوة والضعف وسبل تحسين الكتابة الروائية. ولعل عزوفهم هذا يرجع إلى الحساسيات الشخصية التي يثيرها النقد الأدبي؛ لا سيما أن النقد قد ارتبط في الوطن العربي بتاريخ من العداوات الشخصية. غير أن النقد الأدبي الموضوعي مهم جدا لتطور الأدب، إنْ هو أخذ على محمل الجد من طرف منتجه و من طرف الأدباء الذين ينبغي عليهم أن يتخففوا ما استطاعوا من النرجسية، و من الشعور بالاكتفاء، والتعالي، والاستثنائية.

الصور بإذن من انور الصبري

في هذه المقالة سأركِّز فقط على نقاط الضعف دون ذكر لأسماء روائيين محددين حتى لا يُظن أن هذه المقالة تتقصد أشخاص معينين بالنقد وتتحيز لأشخاص آخرين. و هذه النقاط استخلصتها من قراءاتي لعدد معتبر من الروايات الصادرة في العقد الأخير. ويمكن تقسيمها إلى ستة محاور رئيسية:

  • أخطاء إملائية ونحوية ورداءة أسلوبية: اللغة أداة تفاهم بين طرفين و لا بد أن تكون سليمة حتى يتم التفاهم والتواصل. في عدد من الروايات اليمنية يلاحظ القارئ أخطاءً في رسم الهمزة والتاء المربوطة، و أحيانا في الاعراب، والاشتقاق الصرفي، وفي خلط العامي بالفصيح دون وعي وقصد فني. و أكثر من ذلك يلاحظ المرء سقما في الأسلوب، وتعقيدا في بناء الجمل، وانزياحات بلاغية غير موفقة. وهذا يدل على أن الكاتب لم يتدرب على أساليب اللغة الفصحى ولم يقرأ كثيرا روائع أدبية تزوده بذخيرة لغوية و أسلوبية.
  • الخطاطات الموضوعاتية والشكلية الجاهزة: يسميها الناقد التونسي عبدالدائم السلامي بظاهرة تكرار الخطاطة السردية. ويعني بها أن الروائيين العرب المعاصرين، ومنهم اليمنيون بطبيعة الحال، يكرورون الأساليب السردية في كل رواية. وهذا يدل، كما يرى، على نضوب الخيال. وهو محق في ذلك، ففي الرواية اليمنية مثلا نرى الكاتب الواحد يكرر نفسه ويكرر أصدقاءه. فإن كتب شخص، مثلا، عن فئة اجتماعية معينة انبرى أخرون كالجوقة يكتبون عنها ويكررون البرنامج السردي والموضوعي نفسه.
  • البناء المصطنع للشخصيات وتفاهة رؤاها عن العالم: ينتج كثير من كتَّاب الرواية في اليمن اليوم شخصيات لا تنمو بشكل طبيعي كما هو قانون الحياة. أي أنها تقفز إلى الوجود فجأة، وتحب فجأة، وتكره فجأة، وتموت فجأة. هذه الشخصيات لا تشعرك بأنها حقيقية. لا يكتب هؤلاء الكتاب عوالم أصيلة تجعلك تشعر باستقلالها الوجودي والمنطقي، وكأنها عوالم بين الحقيقة والخيال. يكتبون شخصيات كرتونية تافهة، ورؤاها عن العالم ضحلة. وهذا يدل على ضعف المعرفة بفن الرواية من جهة، و يدل، من جهة أخرى، على أن بضاعتهم في الفلسفة وعلم النفس والتاريخ و أحيانا في الجغرافيا مزجاة.
  • عدم التفريق بين الحكاية والخطاب الروائي: ينقل هؤلاء الكتاب الحكاية من الواقع كما هي دون إبداع، أوتحوير، أوإعادة ترتيب. وهذا يعني أن عوالمهم الروائية غير أصيلة و لا تحمل حقائقها المستقلة والمميزة كما قلنا. إنها نسخ لصور ضعيفة في أذهانهم عن الحياة أو هي في أحسن الحالات صور واقعية لما يعيشونه أو يسمعونه حرفيا. الخطاب الروائي يختلف عن الحكاية ( المادة الخام)؛ ففيه تتجلى موهبة الكاتب و إجادته لتقنيات الحكي الروائي وحيل القص و المراوحة في عوالم سحرية بين الواقع والخيال كما أسلفنا القول.
  • المفارقات التاريخية : يعود كثيرون من الروائيين اليمنيين في سرودهم إلى الماضي ( التاريخ). لكن بعضهم، وهو يعود إلى حقبة معينة، يعود وهو يفتقر إلى  المعرفة بلغة تلك الحقبة وروحها، و بأساليب حياة تلك الشخصيات التاريخية الممثلة وتصوراتها عن الوجود. و يرتكب هؤلاء الكتاب، بذلك، مفارقات تاريخية مثيرة للسخرية ومربكة لحس القاريء المتذوق الذي يصاب بخيبة أمل. فذلك القاريء المفترض يريد تحسس عصور سابقة وعيش مغامراتها والشعور بروحها وبجماليات وجودها القديم، غير أنه يفاجأ بسرد بليد معاصر له لا معاصر لذلك الماضي المراد تمثيله. هذا السرد المعني هنا لا يربط الماضي بالحاضر ربطا محكما ذكيا مراعيا اختلاف الأزمنة.
  • التفاصيل غير الضرورية: الرواية مثل شخص أمامك يحدثك، هذا الشخص قد يكون مملا وقد يكون متحدثا جيدا لا تمل السماع إليه. كثيرة من الروايات اليمنية المعاصرة مملة ومتعبة و ترتاح من تخلصك من قراءتها وتعد نفسك وعدا جازما بعدم العودة إلى قراءتها أبدا. الروائي الجيد كالمتحدث الجيد يتخير الألفاظ، و يحرص على امتاع القاريء، وعلى راحة بصره وبصيرته. الروائي الجيد كالمتحدث الجيد يراعي المقامات ولا يوغل في التفاصيل دونما داع ضروري يدعوه. قد تكون التفاصيل في مقام ما مهمة وهنا تتجلى عبقرية الحاكي الذي يطنب في القول عندما يحس أن سامعه/ قاريئه مستمتع بالحديث.

وخلاصة القول أنَّ على كتاب الرواية في اليمن أن يدركوا أن العبرة ليست بكثرة الانتاج الروائي ولا بعدد الطبعات الصادرة من الرواية الواحدة، ولكن بالروح الجيدة التي تجعل من عمل واحد من أعمالهم عملا خالدا يستجيب لتوق روحي إنساني لدى القاريء أينما كان و إلى أي ثقافة انتسب أو في أي زمن عاش. وهذه الروح الجيدة مزيج من الموهبة والكد. ومن هنا يأتي تذوقنا وتقديرنا لأعمال خالدة صدرت عن ثقافات مختلفة؛ في أمريكا اللاتينية، أو في اليابان، أو في أوروبا، أو في أفريقيا. إن هذه الأعمال العالمية تستجيب لمواجيدنا وانشغالاتنا وهمومنا؛ إنها تستجيب لجرس يرن بداخلنا؛ ولذلك نحبها و نفرح لحصول كتابها على جوائز عالمية كجائزة نوبل في الأدب. و قديما سئل القاضي الفاضل عن سر انشغال الناس بشعر المتنبي فقال: إنه ينطق عن خواطر الناس.

الصور بإذن من انور الصبري

عبدالسلام الربيدي باحث في مساق الدكتوراه  بجامعة ارلانغن نورنبرغ  في ألمانيا ضمن مشروع ” الكفاح من أجل الهويات والأخلاق والفضاءات العامة في مدن الشرق الأوسط” الذي تمولِّه مؤسسة فولكسفاغن الألمانية. تتناول أطروحته بناء الهويات و الوعي بالتاريخ في الروايات اليمنية المعاصرة. حصل عبدالسلام على درجة الماجستير في مجال اللغة العربية و آدابها من جامعة صنعاء. وقد عمل منذ 2006محاضرا في قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة البيضاء باليمن. وهو أيضا زميل معهد كاربو للدراسات التطبيقية بالشراكة مع الشرق في مدينة بون الألمانية. منذ 2017 يعمل الربيدي في تحرير الصفحة العربية من مجلة المدنيَّة. وهو مؤلف كتاب ” النص الغائب في القصيدة العربية الحديثة” الصادر عن دار غيداء في عمان 2012، وترجم كتاب ” التصوف والنزعة الإنسانوية في الإسلام” الذي سيصدر في عمان هذا العام.

اظهر المزيد

Abdulsalam al-Rubaidi

كاتب وباحث يمني. حاصل على الدكتوراه من جامعة بون الألمانية في مجال الدراسات الإسلامية. وهو محرر النسخة العربية من مجلة المدنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى