حين نتحدث عن الشعر الحميني، وعن الفن الصنعاني، لا بد أن يحضر القاضي الشاعر محمد بن عبدالله شرف الدين، كواحد من أهم أقطاب الشعر الحميني، الذي نفخ في القصيدة الغنائية من روحه ومواجيده فملأها حياةً وطرباً وخلوداً.
ولد الشاعر القاضي محمد بن عبدالله شرف الدين، بمدينة كوكبان سنة 1524م، ونشأ بها، وتتلمذ على يد كبار علمائها، وكان مشهوراً بعلمه وطلاقة لسانه، فهو من بيت علم وأسرة توارثت القضاء. كما كان مشهوراً بقصائده الحمينية والصوفية، وتوفي عام 1601م.
فلسفة التفاصيل
يحضر الوصف الحسي في قصائد بن شرف الدين أكثر من حضور الوصف المعنوي والتوغل في ذات محبوبه، الذي يصفه بتفاصيله.. كما يحضر الصوت، وسواد الشَّعر، وبياض الجسد، وتورٌّد الخد، والعُمر الذي لا بد أن يكون صغيراً حسب مقاييسه هو، فقد كان التغزل بالكاعبات شائعاً، ولا يزال حتى اليوم، لكن بن شرف الدين تجاوز هذا الشيوع في قصيدة “خلي صقيل الترايب”:
خلِّي صقيل الترايب …. باهي الخُديد المورَّدْ
قده شبيه امكواكب …. لؤلؤ مكنَّن بعسجدْ
وغُرته في الذَّوائب …. مصباح في الليل يصعدْ
ما فيه عيبٌ لعايب …. من راه هَلَّل وَشهَّد.
ولأنه شاعر يتقصَّى مواطن الجمال ويرصدها، يعود ليعذب نفسه بوصف هذا الجمال الحسي وتفصيله ومحاوله تلمُّسه وارتشافه، لأن هذا الجمال ليس له، وليس في متناول يده. ويكاد المتأمل لما يعانيه بن شرف الدين من الهجر أن يجزم بأن هذا العشق صادرٌ من طرفه هو فقط كعاشق، وأن المعشوقة لا تعلم شيئاً عن هذا العشق ولا عن هذه القصائد التي ربما لا تصل إليها، لأن حضورها في القصائد حضور جمالي تتزيَّن به القصيدة، دون إظهار أي اهتمام بما يطمح إليه الشاعر أو بما يكنه في قلبه تجاه هذه الجميلة التي لا يظهر منها أي تفاعل في معظم قصائد بن شرف الدين:
أظلّ يومي عليك دامي الكبد حيرانْ
واقطِّع الليل اَمثِّل صورتك سهرانْ
أقول والقلب ذايب والدموع شنَّان:
يا ليت من قبَّلَك، يا ليت من لك بَاسْ.
كثيرة هي التساؤلات التي يلقيها على مسامع محبوبته، مُلحَّاً وطالباً اللقاء، وهذا دأب كل شاعر يتغزل فيما امتلأت به عينه من الجمال والحُسن، لأنه يريد أن يصل إلى ما يعشقه ويتغزل فيه بافتتان:
متى، فديتك، أهب صدري على صدرك
ألثم خدودك وأرشف يا قمر ثغرك؟
- متى استمع منك نغمة تزري الأَلحان
متى تبات لي نديم في غفلة الحراس
ثمِلْ، تعربد عليَّا طرفك الأَحور
نشوان يعقد لسانك سلسبيل الكاس.
لا تنتهي هذه التساؤلات، التي لا تلبث أن تتحول إلى عتاب ورجاء:
فاتني ما تخاف من خالقك … خاف ربك وواصل عاشقك
ليت يا ذا القمر من عانقك … فرد ليلة وقد غاب الرقيب.
ومن العتاب والرجاء الذي يوشك على اليأس، يبتكر بن شرف الدين عالماً من خياله، لعله يهوِّن عليه ما يعانيه من الهجر الذي يشكو منه باستمرار، لكنه يرى نفسه هالكاً في كلتا الحالتين: البُعد والقرب، الحقيقة والخيال:
السِّحر في أحومِه يسقي سيوف الحوَرْ
والخدّ ما أنعمه فيه الندى والشررْ
والخمر في مبسمه والشُّهد بين الثـَّغَرْ
أظنّ لو ألثمه لذاب قلبي قُطَرْ.
عجزُه عن وصوله إلى مراده جعله يقنع بالخيال الذي لو تحقق سيجعل قلبه يذوب قطرةً قطرة.. وإن لم يتحقق سيصاب قلبه بالتلف أيضاً، فهو يريد لكنه يخاف، فيكتفي بالتمني، ويصرِّح في أكثر من موضع أنه لا يحتاج إلى شيء قدر احتياجه إلى تحقُّق هذه الأمنية:
لو يسمح الدهر ليلة يلفّ بينك وبيني
فوجنتك ذي الأسيلة فتنة لقلبي وعيني
وذي العيون الكحيلة راحت بعقلي وديني
….
حياة مثلي محال إِن لَم تُنلني الوطر
فإن مُت أنا عنك غايب قل يرحم اللَّه محمد
عَزَّت عليه المطالب ومات مسكين مُكمَد.
وتبقى في نفسه تساؤلات عن سخاء معشوقته في إحراقه بنار الهجر والصد المتكرر. تطلُّ هذه التساؤلات من بين أبيات قصائده بكل وضوح، كأنها احتجاج على الحؤول بينه وبين اللقاء:
كيف تعذب شجي مشتاق إليك
حين دريت إنّ روحه في يديك
أنت ترضى أموت؟ ياسين عليك
آه والله ما فعلك حلال.
يعلم بن شرف الدين أن اللقاء مستحيل، ولن يحصل على وعود حتى وإن كانت بعيدة، فحيناً يتمنى الموت بكل جدية:
ليت من مات، ومن مات استراح
موتي اهون ولا فرق الحبيب.
وحيناً يستغرب أنه لا يزال على قيد الحياة، رغم كل هذا العشق:
يا ناس مالي عشت بعد الفراق؟
لو كنت عاشق كنت مُتّ اشتياق
مـُجون
إضافة إلى شغفه بمواصفات كالرقة والغنج والدلال والتملق، تتكرر مفردة المجون الذي لا يخلو منه معظم قصائده. ورغم مكانة الشعراء القضاة، الاجتماعية والدينية، لم يكونوا يخشوا بأن يفسد العشق وقارهم، أو يجرح عدالتهم لأنهم كانوا قضاة، ووعاظاً يعتلون منبر الجمعة، فقد كانوا أكثر انفتاحاً رغم أنهم عاشوا في تلك الأزمنة المغلقة.
ولا يجد بن شرف الدين حرجاً في الاعتراف بأنه مسحور بهذا المجون الذي سلبه وقاره وعقله، كما في قصيدة “صادت فؤادي”:
نهبت عقلي بالـمَلَق والـمُجون.. وحسن فاتن كم عليه روح راح
ومرة ثانية في قصيدة “يا كحيل الرنا”، يتكرر هذا المجون الذي يستحليه كواحد من مميزاتها:
من جلا بالحلا حسنك ومن … علَّمك ذا المجانة والشوش؟
ثم لا يلبث أن يعترف بمجونه هو في قصيدة “عليك سموني وسمسموني”:
وانا كما انا عاشقك شَنَوني … ما شاه في جدي وفي مجوني.
تصغير للتعظيم
كان بن شرف الدين ذا نفس شعري مميز، استطاع امتلاك قاموسه الخاص، فبمجرد أن تسمع بيتين من قصيدة ستعرف إن كانت لابن شرف الدين أم لا.. لأنك ستراه يلوِّح لك بيده من بين أبياتها.
هكذا هم المتمكنون من الإمساك بضفائر القصيدة وذوائبها، إلى حد أن بن شرف الدين يعمد في قصائده إلى التصغير، والتصغير هنا ليس من أجل التحقير، كما هو السائد، ولكن من أجل التعظيم، كقوله في قصيدة “صادت فؤادي”:
فويتنة من خدها وردها … سويحرة هاروت من جندها.
حتى عقله الراجح أطلق عليه صفة التصغير للتدليل على كبر هذا العقل الذي استطاعت أخذه دون مقاومة منه، ودون اكتراث منها:
بدري كبدر الفلك … أخذ عُقيلي وراح.
وأيضاً:
كم لي عليك دمع ساكب …. وكم نُهيدات تصعدْ
وأيضاً:
بسحر هاروت من كحَّل عُييناتك
ومن بوَرْد الخجل ورَّد وُجيناتك
أقسم عليك بالذي لعَّسْ شُفيهاتك
ذا مِسك من مبسمك أم نفحة الأنفاس؟
تميَّز بن شرف الدين بهذا التصغير، حتى وإن سبقه أحد، أو حاول تقليده في استخدامه. لذلك ستعرف أن هذه القصيدة أو تلك لابن شرف الدين حين تجد فيها مثل هذه المفردات التي طبعت نفَسَه الشعري.
تناص مع الذات
يردُ التناص مع الذات بشكل ملحوظ في قصائد بن شرف الدين، فما دامت الصورة الشعرية من ابتكاره فإنه يجيز لنفسه استخدامها أكثر من مرة بعد تحويرها:
من ألَّفَ الماء في الخدود والشَّرر…. ومن جمع بين المسا والصباح
يتناص مع نفسه في قصيدة “يا من سلب نوم عيني طرفه النعاس”:
ولثم وجنِة بدا فيها اللهب والما
تحكي اللجين الذي زانه طِلا ألماس.
لم يكن بن شرف الدين يحتاج إلى تلقي الحب بقدر ما كان يعطيه ويمنحه، لكنه عطاء من يحتاج إلى الأخذ عيناً مقابل عطائه.
كان بن شرف الدين ماكراً ومراوغاً في عشقه وفي قصائده حين يتعلق الأمر بوضعه الاجتماعي.. فحين ضبطته زوجته يهيم بفتاه ة كانت تعرف أنه سيواجه يقينها بالإنكار، فلم يكن أمامها سوى المصحف الذي حلف عليه، ساخراً من اعتقادها بأنه سيذهب إلى الجحيم إن حنث في يمينه:
عليك سموني وسمسموني … وبالملامه فيك عذبوني
وجرُّوا المصحف وحلفوني … وقصدهم بالنار يحرقوني
حلفت ما احبك فكذبوني … وقبل ذا كانوا يصدقوني
هم يحسبوني اضمرت في يميني … فقلت الله بينهم وبيني.
يضع بن شرف الدين عمامته ومنصبه القضائي والديني خلف ظهره حين يتعلق الأمر بالعشق. فلن تكون هذه المرة الأخيرة التي يحلف لزوجته أيماناً مغلظة بأنه لا يحب جارته الجميلة.. ولا يأبه لوضع يده على المصحف حانثاً بكل يمين، كلما استدعى الأمر ذلك.
صوت الحارثي
القاضي محمد بن شرف الدين، ومحمد حمود الحارثي، (1935 – 2007م) كلاهما من كوكبان، بوصلة الفن والشعر. فقد قيل إنه لا يوجد بيت من بيوت كوكبان إلا وفيه آلة العود، وكل سكانها يتقنون العزف.
من هذه المدينة لمعت نجومٌ كثيرة في الشعر والفن، وهناك أسر كوكبانية توارثت الفن مثل أسرة آل الأخفش، بدءاً من الجد قاسم الأخفش، ومحمد قاسم الأخفش، وعبدالرحمن الأخفش، وصلاح الأخفش، إضافة إلى الثلاثي الكوكباني، وآخرين غيرهم.
كان الفنان محمد حمود الحارثي من أوائل الذين تغنوا بقصائد بن شرف الدين، ونفخ فيها من روحه لحناً وأداءً، فكانت أغنية “عليك سمُّوني وسمسموني” شبيهة بمطر دافئ يهطل من كل المسجلات، ويفيض من نوافذ البيوت والسيارات. ولم تكن أول أغنية لابن شرف الدين يشدو بها الحارثي، لكنها طارت كالريح، وما زال مفعولها سارياً حتى اليوم.
أتذكر أن أحد السائقين في قريتي كان يحدث صديقه عن هذه الأغنية، فقال إنها تفعل مساجاً لروحه. لم أكن أدري ما معنى كلمة “مساج”، فقد كنت في العاشرة من عمري، لكنني توغلت في تلك الأغنية التي كانت بمثابة خريطة إلى كنوز بن شرف الدين.
قصيدة (صادت فؤادي بالعيون الملاح)، ليست مجرد قصيدة أو أغنية فقط.
صوت الحارثي يجعلها بساط ريح. تسمعها فتشعر بنفسك خفيفاً تمشي على الهواء، وعلى الماء، كأنك من أهل الخطوة.
جنانية مثل القمر حورية … تزري بحور العِين فردوسية
بحُسنها لي مُلهيه مُسهِيه … إن هِمت فيها ما عليا جَناح
– ناديت حين لاحَت بداجي الشَّعَر …. موَرَّده أوجانها بالخَفَر
من ألَّفَ الماء في الخدود والشَّرر…. ومن جمع بين المسا والصباح.
يستمر بن شرف الدين في الوصف الحسي، كما هي عادته، إلى آخر القصيدة حين يريد إظهار دهشته تجاه الجمال الذي كان مفتوناً به أينما وجده، إلى حدٍّ لم يبلغه شاعرٌ غيره من شعراء القصيدة الحمينية.
بين كتابة هذه القصيدة وغنائها أربع مائة وثلاثون عاماً من الشجن الذي لم يجد من يلحنه ويضبط إيقاعه. فترة طويلة تفوق فترة نوم أهل الكهف، لكنها كانت قصيدة مستيقظة، فمثل هذه القصائد كُتبت لتبقى خافقة في نبض الوتر. وسيحتاج أيُّ تراث إلى أغنية كهذه، يؤرخ بها ديمومته وأحقيته في البقاء كواحد من حراس الفن الأزليين.