This post is also available in: English (الإنجليزية)
جزء من اللوحات الكبرى المنتشرة في جرف النابرة- الضالع. الصورة بإذن من ف.ر. بيرمر
مع نهاية العصر الحجري القديم وبعد ركود طويل عاشه الإنسان, حدث مايمكن تسميته بالانفجار الكبير في الثقافة البشرية. لقد تمثل ذلك في ظهور الفن لأول مرة عبر الرسوم الصخرية، والأدوات المزخرفة, والأواني الفخارية, وكذلك التحف المصنوعة من العظام (i).
لقد كان العصر الحجري الأوسط فترة تغيير ثقافي لم يسبق له مثيل. وكان ذلك التحول حصيلة تراكم معرفي طويل طور الإنسان خلاله أسلوبه في معايشة العالم (ii).
الانفجار الثقافي الأول
يشير السجل الأثري الأوروبي إلى حدوث تحول ثقافي عميق بين العام 60-30 ألف قبل الميلاد (iii) , وفي المقابل يشير السجل الأفريقي إلى حدوث هذا التحول في فترة أسبق بقليل (vi). إن اكتشاف انفجار الإبداع البشري في ذلك الوقت جعل العلماء يعتبرون توقيته بداية عصر جديد يتوسط العصرين الحجريين (القديم والحديث)؛ ففي هذا العصر توقف الإنسان عن الصيد العشوائي، وبدأ بإستخدام الخطط الإستراتيجية في الصيد, كما عرف هذا العصر بداية رسم واستخدام الخرائط, والتي كانت ترسم على التراب باستخدام الأعواد الخشبية, وكذلك ظهور مواقع الدفن المصحوبة بالطقوس الشعائرية المعقدة كنصب البقايا الحيوانية من القرون والعظام على المقابر البشرية.
بيد أنما يهمنا في هذا المقال هو الإنفجار الفني الكبير الذي شهده هذا العصر والمتمثل في ظهور لوحات الرسم على الصخور التي انتشرت في وقت لاحق في اليمن, على شكل تصاوير بأشكال آدمية وحيوانية وأخرى غير مفهومة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفن الصخري لم يظهر في اليمن إلا مع بداية العصر الحجري الحديث؛ وذلك لخلوها من السكان في العصر الحجري الأوسط، وهو العصر الذي ظهرت فيه الفنون الصخرية.
دعونا نرتب المشهد ليصبح أكثر وضوحاً. فإذا كانت الثورة الثقافية الأولى في أوربا قد ظهرت في العصر الحجري الأوسط, وفي أفريقيا في فترة أسبق بقليل, فإن هناك في المقابل العديد من المؤشرات على حدوث انفجار ثقافي في اليمن خلال العصر الحجري الحديث, لقد تم افتراض ذلك من خلال بقايا حجرية متطورة عثر عليها في منطقة خولان تختلف عن تلك الموجودة في أجزاء أخرى من اليمن. هذا التباين أدى إلى افتراض تطور ثقافي حدث في المرتفعات خلال العصر الحجري الحديث، ولم ينحصر هذا التطور في التقنية الحجرية فقط بل أيضاً في كفاءة استخدام الأراضي الزراعية, وفي صناعة التماثيل باستخدام الطين المحروق, تم تأكيد ذلك باكتشاف كسرة من تمثال من الطين المحروق يعود إلى العام السابع قبل الميلاد في منطقة خولان (v). كانت تلك فترة ناجحة في مرتفعات اليمن, وربما مثلت ذروة انفجار ثقافي غير معهود.
إن توقيت ظهور الرسوم الصخرية في اليمن سيغدو متأخرا إذا ما قارناه بتوقيت ظهوره في بلدان أخرى, كفرنسا التي عثر فيها على لوحات رائعة في أكثر من عشرة مواقع متباعدة تعود إلى ما بين 40 ألف عام و 10 آلاف عام قبل الميلاد. كما وجدت في اندونوسيا أقدم رسمة بشرية مؤرخة, وهي عبارة عن طبعة يد ملونة تعود إلى العام 40 ألف قبل الميلاد. ومع أنه ليس هناك توقيت حاسم لظهور الفن الصخري في اليمن، إلا أنه بحسب إجماع الباحثين لا يتجاوز العام 12 ألف قبل الميلاد.
لقد تناولت الرسوم الصخرية في اليمن أربعة تجسيدات رئيسية: أولاً، الأشكال الحيوانية المنتشرة بكثرة في اللوحات التي تم التعرف من خلالها على وجود الحيوانات الجارحة بكثرة. غير أن السنوريات موجودة بقلة على اللوحات، وبشكل كبير جدا تنتشر لوحات الحمير والوعول وهما الحيوانان اللذان يحضيان بتقديس منذ فترات قديمة, وتنتشر فصيلة الأبقار بكثرة منفردة أو بشكل قطعان كالجاموس القديم, والثور الوحشي, والثور المستأنس. ولا توجد هنالك طيور في الرسومات الصخرية في اليمن. أما الحيوانات الثديية الصغيرة فهي نادرة مع بعض الثعالب والذئاب (vi) . ثانيا, الأشكال البشرية, ونقشت في الغالب عبر الأسلوب التخطيطي في الرسم, بهيئة وجوه مقنعة توحي بكائنات خيالية.(vii) ثالثاً, النباتات والتي ظهرت في الكثير من الحالات التي يصعب التدقيق فيها. رابعاً، الرموز الهندسية غير المفهومة والتي قد تكون نفذت جراء اعتقاد شاماني, ( والشامانية هو ظاهرة روحية آسيوية قديمة, ذات طقوس سحرية تقوم على التفكير الخرافي الخارق للطبيعة).
أين و بأي طريقة نُفذت هذه الأعمال الفنية؟
يبدو أن بداية الفن الصخري في اليمن كانت مع ظهور رسومات لحيونات منقرضة والتي نفذت عن طريق أقدم أساليب الرسم وهي تقنية النحت في حواف متواصلة، وكانت تتم –غالباً- عن طريق النقر الخفيف بأداة صلبة, ربما عن طريق مطارق مخصصة لهذا الغرض, فلا يمكن الجزم في تحديد الأدوات المستخدمة في الرسوم الصخرية في اليمن طالما أن قلة منها اكتشفت حتى الآن (ix). وعبر هذا النمط نُفذت منحوتات حيوانية لفصائل منقرضة ذات أحجام ضخمة كالجاموس والثور الوحشي ذو القرون الطويلة. ويبدو أن الرسم عبر إتلاف السطح الخارجي للجدران كان أسلوباً مرغوباً فيه في المرتفعات. أما الرسومات الملونة، فنفذت من خلال توفير المواد الأساسية للتلوين عبر طحن أنواع متعددة من الصخور بشكل دقيق ثم خلطها مع الماء أو البول في بعض الأحيان, ثم الرسم على الصخر بإستخدام هذه الأصباغ الحجرية, كما أن هناك طريقة أخرى للتلوين عبر قرع الصخر وتكسير واجهته بحيث تُنتزع قشرته الخارجية فيظهر التباين بين الجزء المرسوم ” منزوع القشرة ” وبين الواجهة الأساسية للصخر. كما تم رسم العديد من اللوحات الملونة عن طريق النفخ، وفي هذه الطريقة كان يتم تجميع الألوان وخلطها في حُفر مستطيلة الشكل ومصقولة بشكل أفقي في الصخرة، وقد تم العثور على العديد منها أسفل اللوحات الملونة، و هناك رسوم خطية أو مجموعات من النقاط نفذت بواسطة ريشة أو أداة مشابهةviii. كان اللونان الأحمر والأسود أكثر الألوان المستعملة في تلوين اللوحات، مع درجة تفاوت بينهما تصل إلى حدود اللون البني أحياناً, كما أن هناك ألوانا عضوية استعملت أيضا كالفحم، غير أنها أصبحت باهتة بشكل كبير. وجدت في جبل المسلحقات في صعدة طبعة يد ملونة, وتعتبر الرسم الوحيد لليد الملونة في اليمن. وبشكل عام فقد تميزت اللوحات الملونة برسومات لقطيع من الأبقار, يتبعها في بعض الأحيان صغارها ومصحوبة ببعض الرموز السحرية (xi).
كان الشامان يقود الجماعات البدائية و يتميز بوضع بقايا حيوانية على رأسه و وشم جسده بألاوان. الصورة بإذن عبير الباردة.
من أجل الرسم اختار الرسامون الملاجئ الصخرية المكونة من الحجر الرملي الذي يتميز بسهولة تكسيره. وفي المرتفعات تم العثور على سبعة مواقع رئيسية في محافظة صعدة التي تنتشر فيها الملاجئ المنعزلة والتي تعود أقدم الرسوم الصخرية فيها إلى 8 ألف سنة قبل الميلاد. وفي وادي ضهر تنتشر الكثير من الرسوم الصخرية التي يتم الخلط بينها وبين رسوم تعود إلى العصر البرونزي. وفي محافظة الضالع تم اكتشاف موقعين صخريين في العام 2001؛ أحدهما يدعى جرف النابرة, ويحتوى هذا الجرف على لوحات كبرى تعاقبت عليها أعمال فنية ملونة وأخرى منحوتة, ونجد في هذه اللوحات المثيرة للانتباه بسبب حجمها مجموعات من التجمعات الحيوانية المتناسقة كقطعان الماعز والأبقار، ونباتات ومشاهد حقيقية لأشكال بشرية بأحجام كبيرة, وعدة أشكال أخرى هجينة بين البشر والحيوان وأخرى غير مفهومة, بالإضافة إلى رموز هندسية قد تكون ذات مدلول سحري. في المنخفضات الشرقية تنتشر في وادي بيحان صخور بركانية كبيرة نحتت فيها أعمال فنية متعاقبة, تشكل القديمة منها مشاهد لأشكال بشرية بينما الحديثة منها لحيونات؛ منها الإبل. على أحجار المقابر المتراصة بشكل طقوسي في صحراء حضرموت وأطراف رملة السبعتين نجد أشكالا بشرية وحيوانية غير متقنة. ففي ذلك الزمن الذي يسبق وجود الكتابة, ربما أراد الرسامون عبر تلك الرسومات تخليد الميت عبر رسمه على شاهد قبره.
من هم الذين قاموا بهذه الأعمال؟
كان إنسان العصر الحجري يعتقد بأنه في حال تجسيده للحيوان فإنه بذلك يكتسب قوة السيطرة عليه لأجل اصطياده. وفي اليمن تم العثور على عدد من اللوحات التي تحتوي على رموز عشوائية وغير مفهومة, قد يكون المنفذين لهذه الأعمال مِنْ أولئك الذين يُسمون بالشامانين الذين لم تكن لهم أية صلة بالفن. و الأراء العلمية الجديدة لا تقدم التفسير الشاماني إزاء هذه الرموز المرسومة فحسب, بل تتعداها إلى الحيوانات والأشكال البشرية, إي أن كل الأعمال الفنية في ذلك الوقت كانت لغرض السيطرة على الطبيعة, فهل يعني ذلك أن الفن البدائي كان نفعياً؟
صورة تخيلية اثناء رسم لوحات جبل المخروق – صعدة, عبارة عن رموز ملونة. الصورة بإذن عبير الباردة
لأكثر من قرن منذ اكتشاف كهف التاميرا في اسبانيا, خضع الفن الصخري لتفسير مؤرخي الفن، وكان يعامل كفن طبقا للمفهوم الغربي الحديث للفن. ومع ذلك، فإن منفذي الرسومات الصخرية في العالم, الذين عاشوا قبل عشرات الآلاف من السنين القديمة, لم يقدموا أعمالهم كفن, كما أنهم لم يكونوا من الفنانين المحترفين (xii) . اليوم أصبح الكثير من العلماء يعتقدون بأن الرسوم الصخرية لا تندرج تحت مفهوم الفن، و ذلك لسببين: السبب الأول، لأن الغرض منها لم يكن فنياً, بل نوعاً من الواجب الطقوسي المتعلق بالدفن والصيد والحرب, حيث كان البشر في ذلك الوقت بؤمنون باعتقاد خارق للطبيعة .(xiii) السبب الثاني، هو أن الفن الصخري كان ينفذ في العادة من قبل الأميين الممارسين للشامانية والمحبوسين إلى حد كبير في التفكير السحري لتفسير الطبيعة (xiv). ومع بداية الألفية الثالثة ظهر فريق بارز من العلماء يقول بأن الوقت قد حان ليسيطر التفسير المبني على الشامانية على ميدان تفسير الفنون القديمة، لكن هناك علماء مازالوا معتقيدن بأن الشامانية لم تكن المتسبب الوحيد في ظهور وتطور الفنون الصخرية القديمة, وأن هناك الكثير من الطرق الأخرى لتفسير هذه الأعمال (xx).
والظاهر أن المنفذين الفعليين لأغلب اللوحات المنتشرة في اليمن ينتمون إلى مجتمع الصيادين؛ فقد اتضح ذلك من خلال العثور على بقايا عظام الحيوانات التي تناولوها بالقرب من الملاجئ التي تحتوي على الأعمال الفنية. هذا بالإضافة إلى كون الغالبية العظمى من الرسوم الصخرية المكتشفة حتى الآن كانت قد رسمت على الملاجئ الصخرية المعزولة وسط السهول, والتي كان يتردد إليها دائمو الترحال كمجتمع الصيادين. أما الكهوف التي فضلها ” مجتمع جناة القوت” وهم الأكثر استقراراً، فلم تظهر فيها تلك الرسوم.
هل يعني ذلك أن من شأن استكشاف علمي لكهوف اليمن المطمورة قد يميط لثام الزمن وركام الطبيعة عن لوحات رائعة ابتدعها جامعو القوت كتلك التي وجدت في فرنسا؟ دعونا نأمل حدوث ذلك.
———
المراجع
1. Mithen, S. J. (1996). The Prehistory of the Mind: A Search for the Origins of Art, Religion and Science. p 21.
2. Gabora, L. M. (2007). Mind. In Handbook of Theories and Methods in Archaeology (pp. 283-296). Altamira Press.
3. Mithen, S. J. (1996). Op. cit., p 21.
4. Klein, R. G. (2008). Out of Africa and the evolution of human behavior. Evolutionary Anthropology: Issues, News, and Reviews, 17(6), (267-281), p. 270
5. Barca, D., Lucarini, G., & Fedele, F. G. (2012). The Provenance of Obsidian Artefacts from the Wadi Ath-Thayyilah 3 Neolithic Site (Eastern Yemen Plateau). Archaeometry, 54(4), (PP. 603–622).
6. Rashad, M. (2009).The Art of Rock Paintings and the Settlement of Yemen in Prehistoric Times -Topics of Rock Painting Art.
7. Ibid. p.107-113
8. The Art of Rock Drawings and the Settlement of Yemen in Prehistoric Times – Part nine: Jarf Al-Abel and Al-Nabera are two rocky sites in the Dali area – Frank Bremer, Pierre Bodo, Remy Crassard, Mohammed Manqoush (2009) p 135.
9. Rashad, M. (2009). Op. cit., p 107-108.
10. Bremer,F., Bodo, p., Crassard, R. & Manqoush, M. (2009). The Art of Rock Drawings and Settlement of Yemen in Prehistoric Times – Part nine: Jarf Al-Abel and Al-Nabera Are Two Rocky Sites in the Dali Area, p 138.
11. Rashad, M. (2009). Op. cit., p 140.
12. Bednarik, R. G. (2013). Myths about Rock Art. Journal of Literature and Art Studies, 3(8), 482-500.
13. Mithen, S. J. (1996). Op. cit., p 23-22.
14. Bednarik, R. G. (2013). Op. cit.,p 483.