النساء والنوع الاجتماعي

النسوية التقاطعية: لا توجد إجابة واحدة

النسوية التقاطعية ليست إلا إجابة واحدة ضمن العديد من الإجابات للسؤال الكبير: ما هي حقوق ومطالب النساء؟ وهي ليست قضية ذات طابع جندري متعلق بالنوع الاجتماعي فقط وهي أبعد ما يكون عن إيديولوجيا مغلقة من ناحية العضوية أو المفهوم، بل على العكس من ذلك هي مجال فكري مفرود الضفاف ومتجدد المياه، يتقاطع فيها بشكل حتمي الجندري مع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مما يجعل منها مظلة حقوق تشمل العديد من الشرائح والفئات، وتخدم على المدى البعيد مصالح مشتركة للمجتمع. النسوية التقاطعية هي في جوهرها بحث عن العدالة ولا تقتصر هذه العدالة على النساء فقط، بل تتبلور في فضاء أوسع من المضمون المرتبط بالنوع الاجتماعي لتشمل فئات تعاني من التمييز والتهميش وفقا لتقاطعات مختلفة مثل اللون والعرق والدين والطبقة الاجتماعية والعمر وغيرها من الصفات التي يحددها السياق العام والخاص، مع الأخذ بعين الاعتبار كيف تلقي بثقل أكبر على النساء. من هنا تأتي التقاطعية النسوية كأداة فعّالة لتحديد أوجه القمع والتصدي لها بشكل كلي، وتضمن من خلال توظيفها تحديد العوائق والتحديات المختلفة وفق سياقية متعددة، في سعي يطمح لعدم استئثار نخبة أو طبقة أو قوى معينة بالامتيازات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية دوناً عن سواهم.

نبذة تاريخية

طرحت المحامية والأكاديمية الأمريكية من أصل أفريقي  كيمبرلي كرينشو “التقاطعية النسوية” كنظرية مفصلة في مقال أكاديمي تاريخي  نُشر في 1991 بعنوان “استكشاف الهامش: التقاطعية والعنف ضد النساء الملونات”[1] تقول في مجمله  أن المطالب السياسية لملايين النساء تتكلم بشكل أقوى من الأصوات التي تجعل من العنف ضد النساء أمراً معزولاً  يقع كلياً داخل إطار الأسرة والفضاء الخاص. هي ترى أن العنف ضد النساء هو نتاج منظومة مهيمنة قائمة على الطبقية والعنصرية العرقية والذكورية في آن واحد ودون تجزئة. من هذا المنطلق فإن الشخصي و “الخاص” هو سياسي بالدرجة الأولى ومتصلٌ إلى حد كبير بتجارب النساء في الفضاء العام. لهذا السبب هي ترى أن ما يمكن أن يجعل الحركة النسوية أكثر نضجاً وفعالية هو أن تناضل ضد تقاطعات الظلم الطبقي والعرقي والذكوري المركب الذي يقهر النساء من كل الجوانب ودون أن تُخيّر النساء للاختيار بين قضية دون أخرى. فبما أن للعنف ضد النساء تقاطعات عدة، فلابد من أن يكون النضال النسوي كذلك تقاطعياً.

 

أوجه وتقاطعات القمع في اليمن:

 نحيا اليوم تحت هيمنة العولمة الاقتصادية والنيوليبرالية، التي وسعت الفجوة الطبقية حول العالم وخلقت شريحة صغيرة من المنتفعين وأغلبية من  المهمشين والمسحوقين. ضفِ لذلك مأساة الحرب وتداعياتها، التي تجعلنا نشحذ رؤيتنا أكثر تجاه الأزمات التي تمر بها النساء والفئات المتضررة، فالحرب ليست حالة جمود حقوقي بل هي لحظة تحول تستوجب تصعيد الزخم في المطالبة بالحقوق. في السياق اليمني تتعدد أوجه القمع[2] والتي تتقاطع لتكثف العنف إبان اللحظة التاريخية الحالية ونذكر منها:

  • الاستغلال والتهميش في منظومة التراتبية الاجتماعية في اليمن

يخلق بالتوزيع غير العادل للموارد فئات وطبقات اجتماعية تتعرض للاستغلال كما هو الحال مع فئة المهمشين في اليمن التي تعاني من التجنيد الإجباري من قبل جماعة الحوثيين في المناطق الخاضعة لسيطرتهم. وبسبب نبذ المجتمع اليمني لهذه الفئة بشكل عام على أساس عرقي، فقد طبع المجتمع مع تعرض نساء هذه الفئة للتحرش والاعتداءات الجنسية بشكل مستمرفي مدن متفرقة من الجمهورية اليمنية. في نفس الوقت يهمش المجتمع اليمني في معظم المناطق الشمالية فئة يُطبق عليها “المزاينة” والتي ينبذها المجتمع كذلك لكن ليس على أساس عرقي هذه المرة وإنما على أساس مهني وطبقي رغم حاجة المجتمع للمهن التي تقوم بها هذه الفئة.

  • تقويض حرية التعبير والاستحواذ الثقافي
    العمل الفني للينا العمودي

قلصت سيطرة الجماعات الدينية المتطرفة فضاء الحريات الشخصية والسياسية ولجأت لقمع كل ما هو مختلف كما فعلت جماعة الحوثيين بالبهائيين الذين قمعتهم عبر ممارسات السجن والإخفاء القسري وتجميد حساباتهم البنكية. كما تقوم الجماعات المتطرفة سواءً الحوثية أو الوهابية باستغلال عاطفة المجتمع الدينية لنشر وفرض ثقافة معادية لحقوق النساء التي لم تكن تتعارض مع الموروث الثقافي للمجتمع اليمني قبل أن تفرض أيديولوجيات دينية غريبة على المجتمع اليمني من خلال امتلاك هذه الجماعات لقوة وامتيازات سياسية وعسكرية واقتصادية تسمح لهم بانتهاك حريات وحقوق باقي شرائح المجتمع.

  • العنف المركب

من أهم مظاهر العنف في عصرنا الراهن هي تجارة السلاح. كتبت عهد التميمي في ديسمبر ٢٠٢١ أن اليمن على الرغم من كونه بلد فقيرا فقد أنفق مئات ملايين الدولارات في شراء السلاح من الولايات المتحدة وروسيا بدرجة أولى، ورغم توقف الحكومة اليمنية عن شراء الأسلحة إلا أن حلفائها السعودية والإمارات تأتيان في مقدمة الدول المستوردة للسلاح في الشرق الأوسط. كما تنخرط إيران بشكل نشط منذ ٢٠١٣ في تهريب السلاح إلى اليمن.[3] كل هذا يساهم في ارتفاع نسبة العنف في اليمن، والذي دفع إلى خلق فئات جديدة مستضعفة وعرضة للانتهاكات مثل النازحات والنازحين وتعد مأرب أكبر مستقبل لهم داخل اليمن. وتعاني النساء النازحات بشكل أكبر من تداعيات الحرب مثل نقص المياه والخدمات الصحية والاحتياجات الأولية مثل الغذاء. كما تصبح النساء في مخيمات النزوح عرضة للتحرش والاعتداءات بسبب تدهور الوضع الأمني.

كل هذه الأمثلة المرتبطة بأوجه القمع مهمة لرسم الأبعاد التي تتطرق لها للتقاطعية النسوية، بحيث لا تتوقف عند التنظير أو التعريف بالقمع، بل تذهب إلى دراسته ضمن أمثلة عملية تستطيع تبني قضاياها والدفع باتجاه حلها وهو ما سأناقشه في الجزء المتبقي من هذا المقال.

النوع الاجتماعي والعدالة الاجتماعية:

النساء والفتيات لا يعانين من تمييز المجتمع ضدّهن بناءً على نوعهن الاجتماعي فحسب ولكن هناك أوجه معاناة أخرى تضاف إلى ذلك وتختلف باختلاف أوضاعهن المعيشية. استعرضت منصة هودج على سبيل المثال  شهادات من فتيات ريفيات يمنيات  يعانين الأمرين بسبب قطعهن لمسافة طويلة من أجل الحصول على التعليم، فالأمر بحسب قولهن “ليس مجرد مسافة” مشيرات للضغط الذي يفرضه المجتمع عليهن لقطعهن تلك المسافة بمفردهن مما جعلهن ينسقن للتنقل ضمن مجموعات وفي الغالب يجبرن أو يضطررن على ترك التعليم بشكل أكبر من أقرانهن الذكور الذي يسمح لهن المجتمع بالتنقل بحرية أكثر. هنا نستطيع بكل وضوح أن نرى أن انعدام العدالة الاجتماعية الذي يتجلى في غياب البنى التحتية في المناطق الريفية وعدم اهتمام الدولة بقطاع التعليم مقارنة بالحضر يتداخل مع التمييز ضد الفتيات والنساء.

على الرغم من الحرب، ظهرت في السنين الأخيرة مشاريع تعاونية تنموية تساهم في دعم آليات النسوية التقاطعية وتحقيق أهدافها وذلك عبر مبادرات ذاتية من قبل سكان عدة محافظات قاموا من خلالها بتعبيد الطرق وترميم المدارس وغيرها تقوم أيضا بدعمها جهات مثل الصندوق الاجتماعي للتنمية وهو ما يصفه الكاتب وسام محمد ببوادر ثورة تعاونية في اليمن.

 إن وجود الحركات الاجتماعية خارج هيكل الدولة هي مؤشر صحي، فهي تمتاز عادة بكونها كُتل فتية متصلة بقاعدة شعبية وبإمكانها تبني مطالب تتعنت وتعجز الدولة الأبوية الاستبدادية والفاشلة عن الاستجابة لها كونها قائمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً على انعدام العدالة الاجتماعية وفرض حكم الأقلية المستحوذة على الثروات. وتساهم بعض المنظمات المحلية والدولية في تمكين النساء بالشكل الذي يمكنهن من تحدي المنظومة القمعية المهيمنة، ومثال على ذلك مشروع دعم النساء العاملات في صيد الأسماك  الذي قامت به منظمة الغذاء من أجل الإنسان والتنمية  والذي أراه استثنائياً ويحقق أهدافاً تقاطعية على مستويات عدة، فهو أولا يدعم نساء من طبقات فقيرة كما أنه يمكن النساء من امتهان مهنة غير تقليدية مما يساهم في كسر التنميط المحيط بالمرأة ودورها الاجتماعي.

 

التمثيل السياسي للنساء:

طريقة التنشئة منذ سنين الطفولة الأولى في العديد من المجتمعات بما فيها اليمن تصب في صالح الرجل وتؤثر سلباً على إمكانية لنساء في الانخراط في العمل السياسية خاصة وأن النساء يبقين مختزلات في أدوار نمطية في إطار المنزل تأكل من وقتهن  الكثير وتترك لهن مساحة صغيرة جدا لممارسة السياسة مما يخلق فجوة  كبيرة بينهن ونظرائهن الرجال في هذا المجال.[4]وتجدر الإشارة أن الأحزاب السياسية اليسارية تميل إلى إعطاء النساء مساحة تمثيل سياسية أكبر، ويعتبر تراجع دور هذه الأحزاب في اليمن منذ التسعينات ذو تداعيات سلبية على نواحي عديدة أحدها المشاركة السياسية للمرأة. الشح في العناصر النسائية في مراكز الدولة العليا، يساهم في ترسيخ الصورة النمطية التي تجعل مضمار السياسة محصوراً بالرجال وهو التصور الذي يحمله المجتمع بما في ذلك النساء نفسهن، وبالنظر إلى النظام السياسي للدولة، يمكن بناء تصور حول الفضاء المتاح لتمثيل النساء وهو الأمر الذي أصبح مرتبطاً بنظام الكوتا، أي تخصيص نسب ثابتة لتمثيل النساء في الأحزاب السياسية وأجهزة الدولة. لا يمكن للكوتا أن تنهي تماماً الفجوة القائمة بين المساحة التي تملكها النساء للعمل السياسي وتلك التي يحتلها الرجل فالإشكالية أعمق وأعقد من مجرد التمثيل النسبي ، فمثلاً نرى في العديد من البلدان، خاصة ذات الطابع الاستبدادي الذي يفتقر للديموقراطية الشفافة، أن الرجال يشغلون المراكز العليا والسيادية في بينما تشغل النساء بالعادة مراكز تعتبر بالعادة أقل أهمية وارتباط بصنع القرارات السياسية للدولة وبالتالي، تلزم هذه الدول العاملة بنظام الكوتا أجهزتها  بتبني نسبة من النساء بشكل عام، ولكن توزيع الدولة لمهامهن يجعلهن في مواقع هامشية لا يملكن من خلاله سلطة التغيير.[5] تحرص هذه الدول على أن يكون التمثيل السياسي للنساء غير نسوياً في جوهره، لذلك فإن الثورات على الأنظمة الاستبدادية  تشق بدورها طريقاً جديدًا لصعود نسوي حقيقي يعاكس في رؤيته ما يسمى ب “نساء السلطة”. وهنا يتوجب علينا التوقف قليلا للنظر في الأمر، حيث يجب دراسة مصطلح نساء السلطة كسلوك تنتهجه الدول والأحزاب يتم من خلاله توظيف النساء في أدوار تقليدية لا تغير في شكل النظام الأبوي وهذا بحده تحيز ضدهن و يمثل معاييراً غير منصفة مقارنة بتلك التي تطبق على الرجال.  .

أخيرا من المهم القول إن النساء بسبب الظلم الواقع عليهن بشكل متزايد بناء على نوعهن الاجتماعي مع اختلاف الظرف، فإن ذلك بحد ذاته يجعلهن شريحة من حقها أن تُظلّل القمع الموجه لها  بدون أن تنسى امتلاكها لوكالة على ذاتها، أي ألا تستسلم لفكرة الضحية وتنسى أهمية الكفاح والسعي لانتزاع الحقوق، وتذهب من المنطلق ذاته للمناداة بحقوق تقاطعية.

[1] Crenshaw, Kimberle. “Mapping the Margins: Intersectionality, Identity Politics, and Violence against Women of Color.” Stanford Law Review 43, no. 6 (1991): 1241-1299. https://doi.org/10.2307/1229039.

[2] عناوين أوجه القمع هنا مستوحاة من نص “المشاركة السياسية من منظور نسوي تقاطعي، مركز التنمية والتعاون عبر الأوطان، ٢٠٢٠”

[3] https://politicstoday.org/arms-sell-like-hotcakes-yemen-turns-into-a-hub-for-arm-dealers/

[4] ) Pamela Paxton, Sheri Kunovich & Melanie M. Hughes, Gender in Politics, 2007)

[5]  (Tania Verge & Maria de la Fuente, Playing with different cards: Party politics, gender quotas & women’s empowerment, 2014)

اظهر المزيد

فاطمة السياغي

طالبة قانون دولي، مهتمة بالبحث والكتابة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى