This post is also available in: English (الإنجليزية)
في ٢٩ نوفمبر ٢٠٢٠، عدت إلى منزلي منهكة بعد نهار شاق وطويل. ألقيت نظرة على هاتفي بحثاً عن ما يبعث على الاسترخاء إلا أنني صعقت بأول خبر تقع عيناي عليه : “زوج أحرق زوجته في المكلا أمام أطفالها.” تنقلت عيناي بين الأسطر متجاهلة إذا ما بقيت المغدورة على قيد الحياة؟ و أين بالضبط في مدينتي المكلا؟. كنت أبحث عن معلومة واحدة: ما اسمها؟ بتلقائية أو ربما بأنانية غريزية، كنت أبتهل ألّا تكون إحدى قريباتي أو جاراتي أو صديقاتي هي تلك الضحية!
قبل أسبوعين من هذا الخبر المأساوي، كنت قد غادرت حضرموت إلى محل إقامتي الحالي خارج البلد، فقد كنت في زيارة أنوي من خلالها المشاركة في إقامة فعالية تيديكس سيئون للنساء. غير أن الفعالية قد ألغيت بعد حملات شنتها أصوات متطرفة حرضت المجتمع المحلي والسلطات ضد الفعالية. ادعت تلك الأصوات أن الفعالية، التي كان هدفها مشاركة قصص نجاح لنساء ملهمات من حضرموت، تشكل تهديداً لقيم المجتمع المحافظة. كنت أظن حينها أن ما حدث هو أوج الخذلان والعنف الذي يواجه النساء تحت مسمى الحفاظ على “المجتمع الفاضل” الذي ينتفض بمجرد ذكر حقوق النساء التي يعتبرها مصانة وليست بحاجة لأي مطالب. كنت أظن أن هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث ولكنني كنت مخطئة! فالأمر يتجاوز ذلك إلى قصص مأساوية تبعث الرعب!
أصدق الضحايا، أصدّق النساء
قرأت اسم الضحية ” مروة البيتي” لم أستطع أن أصدق أن المرأة المغدورة هي إحدى زميلاتي. لذت بالإنكار النفسي. لكن أكبر مخاوفي تحققت بعد أن أكدت لي إحدى زميلات الدراسة هوية الضحية. المرأة التي أحرقها زوجها هي مروة ، مروة البيتي، زميلة مقاعد الدرس في مدرستي الثانوية، مروة التي اقتسمنا معها قلق نتائج الاختبارات الرسمية، وحيرة الدروس الخصوصية، وفرحة النجاح والتخرج. كانت لدفعتنا صورة مميزة في آخر يوم للاختبارات الرسمية. في الصورة التي التقطت لنا تظهر حقائبنا موزعة بترتيب يشكل الرقم “٢٠١٦” ، عام تخرجنا. أتذكر جيداً حين رمت كل واحدة منّا حقيبتها بسرعة بعد التقاط الصورة بسعادة. شعرنا خلالها أننا نرمي حقائب المدرسة لنستلم أحلامنا التي نتوق إليها. بحثت عن صور ذلك اليوم وأنا أحاول تخيل ألوان حقيبتها! لم نكن مقربات في المدرسة لكثرة عددنا، ولكن بطريقة أو بأخرى نحفظ ملامح مئات الزميلات، نعرف أصواتهن، نستعير منهن أقلاماً، نقف سوية في الطابور الصباحي، تتزاحم أيادينا في مقصف المدرسة، و نضحك عالياً مع بعضنا البعض على أي نكتة تلقيها إحدانا في موقف الحافلات. مروة البيتي كانت إحدى تلك الضحكات، إحدى تلك الأجساد المنهكة تحت الشمس بانتظار الحافلة، إحدى الأجساد الغضة التي تحمل معها شعوراً بالألفة والأمان. نبّشت عشرات الصور لعلي أجد ما يساعدني على تذكر وجهها، إلا أن ذاكرتي كانت أسرع وتذكرت موقفاً جمعني بها. لاحت أمامي ملامحها وتصاعد وقع الصدمة علي حتى انكمشت في مكاني.
بحكم نشاطي، لديّ عدد لا بأس به من المتابعات والمتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي التي استطعت عبرها الوصول لصديقات مروة اللاتي تمكن من زيارتها في المستشفى. جمعت منهن معلومات أضفتها إلى تلك التي نشرتها أسرتها إضافة إلى تحقيقات الشرطة الأولية وصغتها على هيئة منشور على فيسبوك ذيلته بوسم #كلنا_مروى_البيتي وفوراً شاركه الكثير من متابعي. بعض التعليقات الأولية من المتابعين بشكل عام كانت تستفسر عن مدى صحة الخبر بشيء من التشكيك، بينما اتسمت تعليقات من يعرفني عن قرب من الأصدقاء بالتحذيرات من احتمالية عدم دقة المعلومات التي تناولها منشوري خوفاً عليّ من الملاحقة القانونية. إلا أن غضبي كان أكبر من الشك أو الحذر؛ رغم أني لا أقيم في اليمن في الوقت الراهن، تعلمت من واقع خبرتي أن لا أشكك في هذه الحالات. أعلم أن ما حدث حقيقي؛ لأني، وبكل بساطة أثق دوماً في المعلومات التي أجمعها من النساء. النساء المكلومات والغاضبات يثقن ببعضهن البعض وأنا أثق بنا، أثق بالنساء.
“أبوي حرق أمي”
كانت المعلومات التي جمعتها إحدى الزميلات أثناء زيارتها لمروة في مستشفى ابن سيناء العام بالمكلا تفيد أنها في قسم الرقود نتيجة حروق من الدرجة الثالثة تسبب بها إضرام زوجها، محمد حسن الجفري ، النيران في جسدها العشريني الضئيل بعد أن غمره بالبنزين في حوش منزلهم. وقف الجاني يشاهد اللهب ينهش مروة ويذيب جلدها وتركها تتلوي ألماً أمام عيني طفلتها ذات العشرة أعوام و طفلها الأصغر ذي الستة أعوام، ولم يتوقف الجرم هنا بل ترك المجرم مروة تتعذب إثر حروقها البالغة لقرابة عشر ساعات قبل أن ينقلها إلى غرفة طوارئ المستشفى. وبعد أن ترك الطفلين في منزل الجيران كانا يصرخان بفزع “أبوي حرق أمي.” أما مروة التي كانت ترقد بين الحياة والموت على سرير المستشفى فقد رفضت مراراً التصريح بما حدث، وبعد إصرار من حولها تمالكت ما تبقى لديها من قوى، وقالت: إن خلافاً نشب بينها وزوجها أفضى إلى أن يصر الأخير على أن تغادر مروة المنزل إلى بيت أهلها، وحين رفضت، كان ما كان.
في البداية، تكتمت أسرة مروة، آل البيتي، على الموضوع حتى تتضح الصورة، خاصة أن أسرة الجاني، الذي ظهر بيدين محروقتين حال وصوله إلى المستشفى، عرضت أن تتكفل بكافة مصاريف العلاج مما جعل أسرة مروة ذات الدخل المحدود توافق بسرعة على العرض تجنباً لأي مضاعفات قد تصيب ابنتهم. لم تكن الحالة المادية الصعبة هي السبب الوحيد الذي دفع أسرة مروة للتكتم على ما حدث، فهذا المجتمع “المحافظ” الذي يدعي الفضيلة يلوم الضحايا والناجيات دوماً على ما يحل بهن من عنف. غير أن هذا المجتمع نفسه يمنح الرجال رأس مال اجتماعي يمكنّهم من قلب الطاولة على صاحبات الحق وإلصاق التهم بهن لتبرير العنف. وعوضاً عن محاسبة الجناة، يجزم المجتمع “الفاضل” أنه لابد أن الضحية قد ارتكبت خطيئة ما جعلتها تستحق العقاب.
لم يكن في يدي بعد التحقق من الأخبار سوى أن أنشر القصة عدة مرات على مواقع التواصل الاجتماعي. كنت أحكي القصة لكل من أعرف في داخل وخارج اليمن، وأطلب منهم الحديث عما حدث دون توقف. لم أكن الوحيدة فالكثيرات من الفتيات والنساء – اللاتي يعرفن تماماً أن من الوارد جداً أن يصيبهن ما أصاب مروة في ظل هذا النظام العنيف والمجحف- قد حرصن على أن لا يُنسى حق مروة وظللن يروين ما حدث ويتناقلنه مع معارفهن دون توقف. كم تمنيت في تلك الليلة أن تستيقظ مروة في صباح اليوم التالي وتشعر بالدعم الشعبي والوطني والإقليمي الذي نالته قضيتها، هذا الدعم الذي ربما كانت تحصل عليه لأول مرة في حياتها لو أن لها بقية من حياة. كنت أتمنى أن دعمنا، حتى وإن كان فقط بأصواتنا وأقلامنا التي لا نملك سواها، سيعلمها أنها ليست وحيدة، وقد يمنحها الروح المعنوية كي تشفى و تنهض لأخذ حقها عبر مقاضاة من تسبب في عذابها، وتبدأ بعدها حياة جديدة هي وأطفالها. الكثيرات من النساء وبعض الشباب كانوا يأملون ذلك وباشروا في جمع تبرعات لعلاجها دون أن تضطر أسرتها لتقديم تنازلات لعلاج ابنتهم. وخلال ساعات فاضت التبرعات لتصل إلى حد الإعلان عن الاستعداد بالتكفل بأي مبلغ سيطلبه أي مستشفى لعلاج مروة. كنا نأمل جميعاً أن ترى يوماً جديداً بعد هذه الليلة الطويلة إلا أنها ماتت في الصباح. رحلت مروة بوجعها وربما رحلت قصتها معها إلى الأبد.
النظام الأبوي قاتل
قُتلت مروة مرتين، الأولى بنيران زوجها والثانية بنيران حملة مضادة طفحت أصداؤها على مواقع التواصل الاجتماعي على هيئة تعليقات ومنشورات تحاول التستّر على الجاني، ومنحه مبررات لما فعل، ومهاجمة الناشطات والناشطين الذين تبنوا قضيتها. وفي مقدمة تلك المنشورات والتعليقات العنيفة والمفتقرة إلى الحس الإنساني السليم كانت تلك التي ردت على منشوري الذي كان الأكثر تداولاً على فيسبوك. كان المنتمون إلى هذا التيار ، يدافع، بعنف وبأحاسيس متبلدة، عن رجل لا يعرفونه فقط لمجرد أنه رجل. نعم، يكفي المرء أن يكون رجلاً سواءً كان زوجاً أو أباً أو أخاً أو حتى ابناً لينفذ بجلده من جريمة يقترفها بحق امرأة.
مروة التي قُتلت بعد أربعة أيام من بدء حملة الـ ١٦ يوماً من النشاط ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي التي تقام في كل دول العالم سنوياً، لم تكن المرأة الأولى أو الأخيرة التي تُقتل على يد زوجها. ففي نفس الأسبوع رُفع الستار عن جريمتي قتل مماثلتين في المكلا. المجرم الأول قتل زوجته الحامل خنقاً والثاني أبرح زوجته ضرباً حتى الموت في مدينة المكلا في نفس الأسبوع. وفي أغسطس ٢٠٢٠ قُتلت شمس المهدي من قبل زوجها في محافظة إب وتلتها فاطمة الحداد التي قتلها زوجها في العاصمة صنعاء في سبتمبر ٢٠٢٠. واستقبلنا ٢٠٢١ بخبر قتل أروى الصانع المرأة اليمنية التي قضت برصاصات زوجها في قطر حيث يعيشان منذ عشر سنوات.
وبالطبع هذه ليست الجرائم الوحيدة من نوعها بل هناك الكثيرات اللاتي يقضين على يد ذكور العائلة ويدفن في قبورٍ بلا شواهد وتدفن معهن قضاياهن وحقوقهن. غير أن مقتل مروة أثار موجة غضب واسعة. لقد أدركت كل امرأة عرفت بالجريمة أنها ليست بمأمن بطريقة أو بأخرى. وما أكد لهن ذلك هو ردود الأفعال على ما حدث. فبالرغم من أن قضية مروة تعد جريمة قتل من الدرجة الأولى وجه بشأنها محافظ حضرموت اللواء الركن فرج سالمين البحسني السلطات بإحالتها للتحقيق والقضاء، إلا أن قطاعاً من المجتمع يرى أن الواقعة جناية كغيرها كان يمكن أن يكون ضحيتها رجلاً وبالتالي لا فما من داعٍ لطرح القضية في إطار العنف ضد النساء؛ بل إن البعض يرى أن ما أصاب مروة هو مجرد قضاء وقدر لا يستدعي تحويله إلى قضية تتعلق بحقوق النساء. وحين خرجت نساء حضرموت في مظاهرات احتجاجية استجابة لقضية مروة، اتهم الكثيرون المظاهرات بأنها استغلال لما حدث من قِبَل منظمات أجنبية تسعى لخلخلة قيم المجتمع بل واستهداف الدين الإسلامي!! ومع ذلك، فإن هذه الهجمات الضارية لم تنجح في إخماد القضية؛ فبعد إصدار قبيلة مروة البيتي بياناً تدين فيه المجرم وتصرح فيه بأنها لن تتنازل عن دم ابنتهم. وبالتالي، تطالب بأن يأخذ القانون مجراه، تكفلت مؤسسة “عدالة للتنمية القانونية” بالترافع في قضية مروة ومازالت إجراءات التقاضي مستمرة، وقد عقدت أولى جلسات المحاكمة في السادس من يناير ٢٠٢١.
نسمع كل يوم عن المكاسب التي تحققها النساء في بلدان مختلفة من العالم، وهنالك اعتراف في المستويات الفكرية والحقوقية بنضال المرأة وحقها في المساواة والعدالة. أما في مجتمعنا، فقد أثبتت ردات الفعل في الفترة الأخيرة أن نضال المرأة ضد العنف الموجه إليها يثير حفيظة الكثيرين الذين دوماً ما يصمون المدافعات عن حقوق النساء بالعمالة، وتلقي الدعم المشبوه من الخارج، واستهداف الدين الإسلامي. وهي تهم تعرِّض الناشطات للخطر، وتقوض نشاطهن النسوي على الصعيدين الأسري والمجتمعي . قضية مروة البيتي، رحمها الله، هي إحدى الدلائل الكثيرة أن النضال النسوي من أجل حقوق النساء في بلادنا ليس ترفاً أو ستاراً للتربح المادي على حساب المجتمع. مروة ، كما صرح مقربون منها، كانت تعاني عنفاً لفظياً وجسدياً من قِبَل زوجها لمدة طويلة قبل أن يقتلها. حين تناضل الناشطات والمنظمات النسوية ضد النظام الأبوي، فهن يناضلن من أجل المجتمع ككل بنسائه ورجاله ليتحرر من العنف الذي حين تقع وطأته على النساء يمتد ليشمل كل أفراد المجتمع. النضال ضد أشكال العنف النفسي واللفظي والجسدي التي يعدها الكثيرون ترهات لا تستحق الذكر، ليس ترفاً؛ فكل تهديد واستهزاء وانتقاص من أحلام وطموحات وذوات النساء هو قتل ممنهج لروح المرأة وفاعليتها الإنسانية في المجتمع. يتجاهل المجتمع الأبوي، المشبع بالقناعات البالية والمتحيزة ضد النساء، كل أشكال العنف اليومية التي تطال النساء: بدءا من الكلمة الجارحة وانتهاء بالقتل العمد حرقا أو خنقا أو رميا بالرصاص. يلغي ” مجتمع الاحتقار” في هذه البلد حق الوجود الإنساني الكامل للنساء، دون وعي بأنه يقتل طاقاته بنفسه ويدمر مستقبل أجياله من الذكور والإناث.