المجتمع المدنيفن
أخر الأخبار

الدّان والإنسان: كيف أحيتْ مدينة الشِّحر فنونها التي أريد لها أنْ تموت؟!

This post is also available in: English (الإنجليزية)

 قابليني يا سعاد والبسي ثوب السعادة

عدت لك والخير عاد عوّد الله كل عادة

(من كلمات الشاعر حسين أبوبكر المحضار)

حين يأتي ذكر مدينة الشحر في زمننا الحالي، فغالباً ما يتركز الحديث حول ميناء الضبة الواقع بالمدينة الساحلية المطلة على البحر العربي الذي يعد أهم الموانئ النفطية اليمنية. غير أن ثقافة هذه المدينة وإرثها الفني هما على قدر من الأهمية التي تتجاوز قيمتها الاستراتيجية والاقتصادية.

 ظهرت مدينة الشحر، وقد تسمى أيضا بسعاد كما في الاقتباس السابق عن شاعرها المحضار، في كتب المؤرخين والجغرافيين العرب الأوائل منذ منتصف القرن السابع الميلادي. فالمدينة الحضرمية التي تبعد حالياً عن عاصمة محافظة حضرموت بحوالي ٦٥ كيلومتر، تعد من أهم بوابات البلد المصدرة للثقافة والفنون وتجارة المنتجات الحرفية المحلية والأقمشة والحلي واللبان. وإضافة إلى ذلك، فإن حضورها التاريخي كان له إسهامات هامة في فضاء الحضارة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية وفي مناطق أخرى كجنوب شرق آسيا لما يقارب ١١٠٠ عام.[1]  وعلى رأس إسهامات الشحر في الثقافة اليمنية وكذلك بلدان الجوار، كانت الموسيقى بطابعها الحضرمي المعروف.

حقبة ذهبية وفنانون وشعراء مشاهير

حظي الإنتاج الفني في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ١٩٧٠-١٩٩٠ باهتمام كبير من قبل الدولة لا يقل أهمية عن اهتمامها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد بلغ ذلك الاهتمام عصره الذهبي في فترة نهاية السبعينات و حتى عام تسعين من القرن الماضي.   تبنت الدولة الاشتراكية ذات التوجه الحداثي فرق الإنشاد والغناء الحديث والشعبي والمسرح والدراما الإذاعية والتلفزيونية. وهو الأمر الذي وفر مناخاً جعل تلك الفترة تشهد ازدهارا في مجال الحراك الثقافي والفني.

أنجبت الشحر أحد أهم الشعراء والملحنين العرب في العصر الحديث، وهو حسين أبوبكر المحضار، الذي شكل تعاونه مع أبو بكر سالم، الفنان الحضرمي المعروف عربيا، من أهم الثنائيات الفنية في تاريخ الأغنية الحضرمية المعاصرة واليمنية بشكل عام. وقد أصبح إنتاجهما الموسيقي يمثل مدرسة مميزة على مستوى دول الجزيرة العربية بصورة خاصة.

وإضافة إلى إسهامات المحضار وبلفقيه خلال تلك الحقبة، فقد لمعت أسماء أدبية وموسيقية مؤثرة في ذلك المناخ خاصة في الشحر،  ونذكر منها باشراحيل، و الملاحي، و سعيد عبد النعيم، ومحفوظ بن بريك، و آخرين . وكانت لحضرموت كما باقي محافظات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مشاركات دولية عديدة في الفعاليات الموسيقية وبرامج التبادل الفني الأكاديمية. لم يكن ذلك العصر الذهبي محض صدفة بل جاء نتيجة بناء منهجي و سياسة موجهة نحو تشجيع الفنون و الاعتناء بها. كانت تدرس التربية الموسيقية و الفنية منذ المراحل الأولى في المدرسة على أيدي أشخاص متخصصين. أما في المراحل اللاحقة، فكان يأتي دور إدارة رعاية الشباب التي كانت تهتم بتدريب الشباب الموهوبين، و تساهم في المشاركة في الفعاليات الفنية التي كانت منتشرة بشكل كبير و لها قبول مجتمعي و دعم مؤسسي من الدولة. وعلاوة على ذلك، فقد كانت هناك معاهد الفنون كمعهد محمد جمعة خان في المكلا  حيث كانت تدرس فيه الموسيقى، و الفن التشكيلي، و الفنون الشعبية، و الرقصات على أيدي خبراء سوفييت ومحليين تم ابتعاثهم في الخارج.

بتلك البنية التحتية والنشاطات المحلية المنظمة والمشاركات الدولية و المهرجانات الدائمة  ساهمت الدولة في خلق جيل يقدر قيمة الفنون و يتقنها و يجيدها بطريقة أكاديمية تطور الموهبة و تصقلها و تساهم برفعها إلى درجة الاحتراف. ولا يزال الأرشيف الإذاعي والتلفزيوني يحتفظ لنا بالأعمال الفنية التي كان يتم إنتاجها في الإذاعة والتلفزيون.[2]

تقويض وتراجع

واجه ذلك العصر الذهبي تحديا وتقويضا بعد حرب صيف 1994 التي جعلت الفرصة سانحة أمام التيار الراديكالي المتحالف مع السلطة المنتصرة للقضاء على الفنون ومكتسبات الحداثة باسم محاربة مظاهر الكفر. لقد أحدث هذا التقويض أثراً وتراجعاً  في مناخ الإنتاج الموسيقي في البلد لا نزال نلمس أثره حتى اليوم. مكن نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح فور انتصاره بالحرب القوى المتشددة دينياً من إغلاق المراكز و المعاهد الفنية والموسيقى ودور السينما والمسارح والحد من الحفلات الموسيقية والفنية بشكل عام. كما انتشرت الدعوات المتشددة الداعية إلى محاربة الفنون بكل أشكالها: الغناء، و الموسيقى، و المسرح، و الفن التشكيلي بحجة أنها مخالفة للشريعة. أثرت هذه التطورات بصورة سلبية على الفنانين أنفسهم  الذين فقدوا وظائفهم وحرموا من إقامة فعالياتهم؛ فقد ألغيت حصص الموسيقى و التربية الفنية من المدارس وانتهى المسرح المدرسي الذي جرت إزالته من التصاميم المعمارية للمدارس والمناهج التعليمية الجديدة. وكان من نتائج ذلك أن ساهم في خلق جيل لديه فكرة سلبية عن الفن بسبب الموجة القوية في محاربته؛ سواء على مستوى قرارات الدولة أو على المستوى الاجتماعي وذلك من خلال المحاضرات والأشرطة الدينية التي شيطنت كل من يسعى لتعليم الفن أو نشره. كل هذا أثر على احتمالية خلق جيل جديد يواصل المسيرة الموسيقية والثقافية التي اضطلع بها جيل الآباء.

دور الجيل الجديد وما أتيح له من وسائل في بعث الفن

هذا الحال لم يستمر طويلا؛ وذلك أن البيئة الحضرمية، كغيرها من البيئات الإنسانية في العالم، قد انطبعت طيلة قرون على عشق الفن الذي  يعد جزءا أصيلا من الثقافة المحلية هنالك. فهي أرض فن الدّان، وموطن الشعراء والملحنين والمغنين الكبار، وحصن الثقافة الصوفية السماعية، ومسرح مهرجانات الوعل والقنيص ومغاني الصيادين والمزارعين و التراث الغني ايقاعاً و لحناً و موسيقى .  ومن الطريف أن الكثيرين من المنشدين في البلد–  في أوج التشدد الديني- قد عمدوا إلى استبدال كلمات أغان حضرمية معروفة بكلمات أخرى مقبولة لهم يؤدونها بالألحان الأصلية، لكن دون آلات موسيقية .

أتاح الإنترنت في العقدين الأخيرين للمواطن الاطلاع على الثقافات البعيدة والمحيطة بل على القديم من التراث اليمني؛ لا سيما عبر مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب. لقد مكنت هذه الفرصة الشباب من التواصل مع الإنتاج الموسيقي المحلي الذي أخفي عنهم في العقود الثلاثة المنصرمة. وفي ضوء هذا التطور بادر أبناء مدينة الشحر المخلصون أمثال المايسترو محمد باعامر و الأستاذ عبد الله بروق إلى التعاون مع مكتب الثقافة بالشحر ونظموا دورة تدريبية في أساسيات الموسيقى التي تناولت النوتة و أساسيات العزف على العود و الكمان و الاورغ لعدد عشرين شاب لمدة 15 يوماً . أعلن عن الدورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولقت تفاعلا كبيرا من قبل الشباب المتلهفين لمثل هذه الدورات التي كان لا يجدها الشباب في السابق.

يقول الأستاذ عبد الله بروق أحد منفذي الدورة: “انطلاقا من استشعارنا لخطورة الوضع مع ما نراه من أوقات فراغ فائضة لدى الشباب، فقد أحببنا أن نحفظ الشباب من الانخراط في الأنشطة السلبية مثل تعاطي القات و المخدرات و كذلك الانخراط مع جماعات متطرفة”.

ومع أن هذه الدورة ليست الأولى على مستوى حضرموت؛ فقد سبقتها دورة أقامها الفنان الشاب هيثم الحضرمي في مدينة المكلا لأكثر من 67 مشترك من الجنسين و في فئات عمرية مختلفة، إلّا أن الجديد فيها أنها تأتي في إطار مبادرة رسمية عبر مكتب وزارة الثقافة. وهذا قاد إلى عقد دورة مماثلة أعلن عنها مكتب وزارة الثقافة في المكلا، وقاد مهمة التدريب فيها الموسيقي الأحمدي. علاوة على دورة قادها المايسترو باعامر في مدينة شبام في قاعة الثقافة في العشرين من ديسمبر من العام 2020.

العمل الفني لمها العٌمري

الاستمرار بحاجة إلى دعم

ويظل استمرار مثل هذه المبادرات رهن بالدعم لها و تبنيها من قبل جهات مثل مكتب وزارة الثقافة . ويرجع ذلك إلى أن المدربين غير متفرغين للتدريب. ما  فعله الموسيقيون هؤلاء كان من باب التطوع. فضلا عن أن التدريب قد تم في قاعات مبنى عادي ليس مخصصا للدورات الفنية؛  وذلك لانعدام البنية التحتية اللازمة. وعند لقائنا بمجموعة من الشباب المشاركين الذين لم يتجاوزوا العشرينات من العمر وجدنا ارتياحا كبيرا لديهم لإقامة هذه المناشط. وقد حدثونا عن مدى الشغف الذي كان لديهم و كيف أنهم خلال فترة قصيرة تمكنوا من التعرف على النونة و صار باستطاعتهم عزف مقطوعات بسيطة. وهذا ما يدفعهم للاستمرار، كما ذكروا لنا.

تحديات تواجه الفنانين الشباب

   أخبرنا الفنان عمار عدلان، من أبناء الشحر ، أن عدم توفر المعاهد التدريبية المتخصصة يشكل عائقا كبيرا أمام الفنانين الشباب الطامحين للاحتراف.   أما عازف العود و الموزع هيثم الحضرمي  فقد أضاف أنه، علاوة على غياب المعاهد ، فإنّ  الآلات الموسيقية لا تتوفر بسهولة، وإنْ توفرت فأسعارها غالبا ما تكون مرتفعة مع تدني في جودتها الصناعية. ويرى الفنان الشاب هشام عبد الله أن المجتمع يطالب الشباب بالكثير ولكن دون أن يقدم لهم أي دعم كي يكتشفوا مواهبهم ويسعوا في تنميتها.

إنّ هذه المبادرات والتوجهات تبعث على الأمل، ولا شك. غير أن الدور الأساسي ينبغي أن يناط بالدولة وما تتبناه من سياسات ثقافية. ونحن نقول هنا إن إعادة افتتاح مركز أبوبكر سالم بالفقيه الثقافي بالطريقة التي تليق به قد أصبح ضرورة مجتمعية. كما أن الجيل المحب للفن في حضرموت يتطلع إلى إعادة معهد محمد جمعة خان للفنون وإلى افتتاح كلية للموسيقى في هذه المحافظة. ولعل الشحر بتراثها الفني والثقافي المميز ستكون في طليعة ذلك الاهتمام.


[1] Hardy-Guilbert, Claire. “Thirty-Fourth Meeting of the Seminar for Arabian Studies.” In Proceedings of the Seminar for Arabian Studies, 20-22 July 2000 31, 31:69–79. London: Archaeopress, 2001.

[2] Alviso-Marino, Anahi. “Impact of Transnational Experiences: The Case of Yemeni Artists in the Soviet Union.” Arabian Humanities 1, no. 3 (2013). https://doi.org/https://doi.org/10.4000/cy.2229 .

اظهر المزيد

Nabhan bin Nabhan

A civil society and cultural activist.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى